أين الرحمة والضمير يا أولي الأمر..؟

أفرزت الأزمة السورية وحربها الدائرة منذ ما يُقارب الأربع سنوات بين الناس أخلاقيات ومسلكيات وتصرفات لم تكن معهودة سابقاً، وربما لم نكن لنلحظها بحكم الحياة الطبيعية للناس، التي كانت تُداري أو تُخفي في ثناياها الكثير الكثير من المتناقضات والحكايا غير المقبولة إنسانياً واجتماعياً، لاسيما بين ذوي القربى وصلة الرحم المحكومين بضوابط دينية واجتماعية تفرض عليهم أول ما تفرض مبدأ الرحمة والرعاية والولاية على الأطفال واليتامى والنساء والقاصرين.

لقد تخلى الكثير من أولي الأمر عن مسؤولياتهم المنوطة بهم في ظروف قاسية ومريرة، ظروف تستوجب منهم التمسّك أكثر بالحماية والرعاية للخاضعين لولايتهم ووصايتهم من أقرب المقربين، فضلاً عن قرابة العصب والدم التي تتطلب تلك الرعاية أيضاً، وهناك قصص مُذهلة لا يقبلها عقل أو ضمير تُركت فيها نساء لم تتجاوز أعمارهن الخامسة والعشرين مع أطفالهن لمصير مجهول، بعد أن رفض الآباء أو الأجداد تحمّل مسؤولياتهم، بحكم غياب الأب والزوج أو موته أو فقدانه.

مها.. زوجة لم يتجاوز عمرها الثالثة والعشرين عاماً لديها ثلاثة أطفال أكبرهم في الخامسة من عمره، اختفى زوجها في ظروف غامضة قبل أن تضع مولودها الثالث بأسابيع، ولم تعد تعرف شيئاً عن أخباره ولا في أي مكان أو جهة هو، رغم البحث المُضني والمُكثّف عنه، وكانت قد نزحت من إحدى المناطق الساخنة في ريف العاصمة مع أهل الزوج واستأجروا بيتاً يتسع لهم جميعاً، غير أن والد الزوج الذي يتصف بالبخل لم يعد يتحمل شغب الأطفال وصخبهم، ولا حتى حاجتهم إلى الطعام وما شابه، بل يريدهم في سبات دائم مما أرغم الابن على استئجار بيت مفروش له ولأسرته الصغيرة، بمبلغ ليس بالقليل، بسبب جشع أصحاب البيوت والمكاتب العقارية. وبعد أن اختفى الزوج- الابن لجأت الزوجة إلى أهله كي يتحملوا مسؤوليتهم تجاه الأطفال، بعد أن استنفدت كل ما لديها من مال ومصاغ لتسديد بدل إيجار البيت وإطعام أطفالها ومصاريف الولادة التي تمّت في غياب الزوج، وهي ما زالت تأمل أن يعود أو يظهر. والغريب أن أهل الزوج رفضوا عودتها وأطفالها إلى بيتهم بذريعة أن لا طاقة لهم على ذلك، كما رفضوا مدّها بالمساعدة المالية أو الاعتراف بحقوق أولئك الأطفال وولاية جدهم عليهم في غياب والدهم مع أنهم مقتدرون، ورغم أن الزوجة- الأم لا تعمل ولا تحمل شهادة علمية تؤهلها للعمل في أيّ مكان، مع ضآلة الفرص المتاحة في ظل بطالة مرعبة، إضافة إلى أن أهلها يقيمون في أحد مراكز الإيواء التي لم تجد فيها مكاناً لها ولأولادها، وحتى إن وجدت، فلا مال لديها يُساعدها على مصاريف أطفالها في ظل غلاء فاحش لا يرحم، وهي الآن تائهة لا حول لها ولا قوة تبحث عن حل لمشكلتها المُستعصية في ظل ظرف صعب ومرير.

أما منى.. التي لم تكمل بعد الثانية والعشرين من عمرها وهي أم لطفل لم يتجاوز عمره السنتان، فقد قُتل زوجها أثناء فضِّ شجار وصل بين أخوين إلى حدّ سحب السلاح الذي أصبح بمتناول الجميع دون رقيب أو حسيب فأصابته طلقة طائشة وأردته قتيلاً قبل أن ترى عينا ابنه النور، ومنى مثل مها، لم تُكمل دراستها، ولا عمل أو مورد لها يُعينها على تحمّل مسؤولية طفل صغير، لذا لجأت إلى أهل زوجها الذين رفضوا إيواءها وابنها، كما رفضوا تقديم أيّة مساعدة لها تُعينها في ظل غياب أهلها الذين هاجروا إلى مصر بعد أن أصبحت مدينتهم ساحة حرب لم تتوقف حتى اللحظة، وبالتالي صارت منى وحيدة مع ابنها، إضافة إلى مسؤولية ابن شقيقتها التي توفيت أثناء الولادة وتركت لها صغيرها وحيداً بعد أن اختفى والده أيضاً لأسباب مجهولة، وبذا أضحت مع طفلين تواجه مصيراً مجهولاً في بلد يُعاني أهله شتى أنواع القهر والدمار المادي والمعنوي بسبب حربٍ لا نهاية لها في المدى المنظور.

بالطبع قصة مها ومنى وشقيقتها ليست الوحيدة في مجتمع عششت في نفوس كثيرين من أبنائه الأنانية والجشع والطمع، بعد تلاشي الإحساس بالغيرة والنخوة تجاه أقرب المقربين، مجتمع سيُجرّم أيّة امرأة من أولئك النساء المهملات والمتروكات لمصيرهن إن أقدمت على سلوك شائن من أجل لقمة عيش أطفالها، وسيُقيم عليها الحد رغم تخلي ذكور القبيلة عن مسؤولياتهم في حماية النساء والأطفال لاسيما زمن الحرب، بلا وازع من أخلاق أو ضمير لا يستفيق إلاّ إذا شذّت أنثاه عن أعراف القبيلة وقيمها وخرقت شرفها المعلّق منذ الأزل فقط على أكتاف نسائها المغدورات.

من هنا نتلمّس أن التمسّك الأزلي لذكور القبيلة بمبدأ القوامة والوصاية والولاية هو تمسك واهٍ خالٍ من أيّ معنى أو مسؤولية تستوجبها الحياة، حتى بلا قوانين تفرضها تلقائياً وغريزياً أحياناً العلاقاتُ الإنسانية الطبيعية التي تُمارسها الحيوانات بغريزة لافتة للانتباه، إنه تشبث ذكوري بحت دافعه الأساسي السيطرة على النساء بمختلف الحجج والذرائع من أجل استمرار تلك السيطرة الفارغة التي تُعززها القوانين والضوابط والأعراف الدينية والاجتماعية، لاسيما قانون الأحوال الشخصية الذي سُنَّ زمن الحكم العثماني، والذي تخلّت عنه الحكومة التركية فيما بعد لأن تطور الحياة لا يسمح بالاستمرار في ظل قانون كهذا، بينما ما زلنا متشبثين به فقط إرضاءً للنزعة الذكورية الطاغية لدى رجال الدين والسياسة والمجتمع.

 فأين أولئك الرجال وتشبثهم الأزلي بمبدأ الولاية الفارغ من أيّ معنى في ظل تلك القصص والحالات المُدهشة حقاً والمُثيرة للتساؤل والاستغراب؟ بل أين هم من شرف يتغنون به دائماً لكنهم فعلياً بعيدون عنه سنوات ضوئية، بل يتهربون من تبعاته الأخلاقية ليلقوا بها فقط على أكتاف ومصير نساء تخلوا عنهنّ وعن أطفالهن بلا أيّ شعور بالخجل أو انعدام الشرف؟!

العدد 1140 - 22/01/2025