لماذا كان ماركس محقاً؟! (29)
كان ماركس ماديّاً، وآمن بعدم وجود شيء آخر سوى المادة. ولم يهتم بالنواحي الفكرية للإنسانية، ولم يرَ في وعي الإنسان سوى انعكاسٍ للعالم الماديّ. وكان عدواً لدوداً للدين، واعتبر أن الأخلاق إنما هي بكل بساطة مسألةُ غايةٍ تبرر الوسيلة. ولهذا تأخذ الماركسية عنّا كلَّ شيء خاص يميّزنا، وتجعل منّا كتلاً مادية فاقدة الوعي لما تفعله بنا بيئتُنا. ومن صورة الإنسان هذه الخالية من الروح والسلوان، يرتسم طريق مباشر إلى الجرائم البشعة التي اقترفها ستالين وأتباع ماركس الآخرون.
لم يسرق السؤالُ، عمّا إذا كان العالم يتألّف من مادةٍ أو روحٍ أو جبنةٍ بالأعشاب، النوم من أجفان ماركس.
كان ماركس يحتقر مثل هذا التجريد ماوراء الطبيعي المتعالي ويهاجمه بخشونة على أنه تأمل نظري لا طائل منه.كان ماركس، كواحدٍ من أهم مفكّري العصر الحديث، يتحسّس بشدة من التخيّلات. ومن يعتبرُه منظِّراً جافّاً، ينسى أنه كان، بين أمور أخرى، فيلسوفاً رومانسياً لا يثق بأي شيءٍ مجرّد ويتحمّس بشغفٍ لكل شيءٍ واقعي وخاصّ. اعتبر التجريد شيئاً سخيفاً وعديم الفائدة، والواقعيَّ شيئاً متعدِّد الأوجه والفائدة. ومهما كانت تعنيه المادّيةُ بالنسبة له، إلا أنه لم يراع أيَّ اهتمام للسؤال عمَّ يتألّف العالم منه.
شغل هذا السؤال بالأحرى أنصار التنوير الماديين في القرن الثامن عشر، حين نظر البعضُ منهم إلى الإنسان على أنه مجرّدُ وظيفةٍ آليّة للعالم المادّي. أما ماركس فقد اعتبر هذه النظريات برمّتها قضايا عقائديّة. فمن ناحية أسبغت هذه النظريات على الإنسان دوراً سلبياً عُدَّ فيه عقلُه ورقة بيضاء تستقبل من العالم الخارجي المادّي الانطباعات التي تتشكّل منها بعد ذلك الأفكارُ. وعندما يستطيع الإنسان التأثير بشكلٍ من الأشكال في هذه الانطباعات بحيث تستطيع إنتاج أفكار من النوع (الصحيح)، يتمكَّن البشر من التطوّر المستمر باتجاه حالة من الكمال الاجتماعي. لم يكن مثلُ هذه الآراء بالتأكيد نظرياتٍ بريئة سياسياً، وإنما هي أفكار نخبةٍ من الفلاسفة البرجوازيين الذين لم يكافحوا من أجل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان فحسب، وإنما أيضاً من أجل احترام الهويّة الشخصية والملكية الخاصّة. وكان يحدوهم الأمل الذكوري أن يستطيعوا تغيير سلوك الناس البسطاء عن طريق هذا التأثير في التفكير. ومن الصعب جداً أن نتصوّر أن ماركس قد اعتنق مثل هذا النوع من المادّية.
حتى وإن لم يكن هذا الشكل الوحيد من المادّية قبل ماركس، إلا أنه أدرك عموماً أنه طريقة تفكيرٍ مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصالح الطبقة البرجوازية. كانت طريقة فهمه للمادّية، كما طوّرها في (نظريات حول فويرباخ) وكتابات أخرى، مختلفة تماماً، وهذا ما كان ماركس واعياً له جيداً. كان واضحاً بالنسبة له أنه قطع أية علاقة بالمادّية القديمة وأنه خلق شيئاً جديداً جداً. فالمادّية عنده تعني الانطلاق من صورة الإنسان الواقعية بدلاً من التعلّق بمُثُلٍ عائمة. والواقعيةُ عنده تعني قبل كل شيء أننا نوع من كائناتٍ جسديّة ومادّية وعمليّة. وكلُّ شيءٍ نكونُه أو يمكن أن نكون عليه، يجب أن يُشتقَّ من هذا الأمر الواقع الأساسي.