ستبقى ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى خالدة في وجداننا
في هذه الأيام تحتفل البشرية التقدمية بالذكرى الثامنة والتسعين لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا، التي تصادف في 25 تشرين الأول حسب التقويم الشرقي و7 تشرين الثاني لدى التقويم الغربي لعام 1917. وهي تعتبر أهم أحداث القرن العشرين، الذي انقضى معظمه في ظل القطبية الثنائية للاشتراكية والرأسمالية، وإن آثارها وتداعياتها امتدت لتشمل تقريباً أنحاء العالم كافة، كما أنها غيرت موازين القوى على الساحة الدولية قرابة سبعة عقود من الزمن، فقد لعبت دوراً هاماً في التأثير المباشر على نضال الشعوب من أجل التحرر والانعتاق، وأدت إلى ظهور العديد من الحركات العمالية في عدد من بلدان أوربا وأسيا وأمريكا اللاتينية، وتطورت الأحزاب الشيوعية والعمالية، وأصبح الحزب الشيوعي الروسي ولاحقاً الحزب الشيوعي السوفييتي في طليعة هذه الأحزاب، وأخذ مركز الصدارة في التصدي للهجمة الاستعمارية الشرسة والنضال داخل روسيا والاتحاد السوفييتي وخارجهما. وكان لقيام الاتحاد السوفييتي في عام 1922 الدور الريادي على مدى سبعين عاماً في تحقيق إنجازات على الصعيد الوطني والعالمي لصالح القوى المحبة للسلام والحرية وإبعاد شبح الحرب المدمرة عن شعوب العالم، وهو الذي سحق ودمر الفاشية الألمانية وانتصر عليها، وأنقذ الشعوب كافة من خطر هذا الطاعون، وقدم الدعم المادي والعسكري للثورات الاشتراكية في العديد من بلدان العالم، ومنها على سبيل المثال الثورات الشعبية في كل من الصين وكوريا الشمالية وكوبا وفيتنام وغيرها من الدول، وكان السند الرئيس لقوى حركة التحرر الوطني في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهنا من الضروري التذكير بموقف الاتحاد السوفييتي من استقلال سورية ومن العدوان الثلاثي على مصر وغيرها من المواقف المشرفة والمساندة للشعوب العربية.
قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في ظل توازنات وظروف سياسية واجتماعية داخلية وخارجية في غاية التعقيد والصعوبة، منها ارتفاع معدلات البطالة نتيجة انخفاض الإنتاج الصناعي في عام 1917 بالمقارنة مع 1916 وإغلاق معظم الشركات والمعامل والمراكز الصناعية وتراجع قيمة الأجور الحقيقية بنحو 50% عما كانت عليه في عام 1913 وساعات عمل طويلة تصل في المتوسط إلى 10 ساعات لمدة 6 أيام في الأسبوع، وهذا ما أدى إلى ارتفاع حاد لتكاليف المعيشة، إضافة إلى تعرض البلاد لمواجهة خطر الإفلاس، حيث وصلت الديون في أكتوبر 1917 إلى 50 مليار روبل منها 11 مليار روبل للبلدان الأجنبية، ناهيك عن الأوضاع المأسوية التي سببتها الحرب العالمية الأولى.
لقد انطلقت هذه الثورة من عمق المجتمع الروسي بمشاركة واسعة من جماهير الفلاحين المسحوقة في الريف، والطبقة العاملة في المدن، ومجموعات واسعة من الفئات الوسطى الحضرية بقيادة حزب البلاشفة وعلى رأسه فلاديمير إيليتش لينين، الذي يعد واحداً من أبرز الشخصيات في العالم، وقد اختاره الكاتب الأمريكي مايكل هارت، واحداً من مئة شخصية غيرت وجه التاريخ في كتابه الشهير، الذي تضمن سيرة أنبياء الرسالات السماوية، وجاء ترتيب لينين الخامس عشر وسط هذه الشخصيات. وهكذا ظفر الثوريون بالسلطة السياسية وأنهوا الحكم القيصري الاستبدادي وطغيان الإقطاعية وكبار الملاكين، وانبثقت من رحم السلطة الجديدة مجالس (سوفييتات) العمال والفلاحين والجنود.
استطاع لينين بناء أداة الثورة ألا وهو الحزب الماركسي اللينيني، الذي طرح الشعار الصحيح والذي وحد الملايين من العمال والفلاحين والفقراء حول الثورة، وهو شعار الأرض للفلاحين والمصانع للعمال والسلام للشعب في المرحلة الأولى. وفي المرحلة الثانية تناول المسائل الاقتصادية والاجتماعية، وانعكس ذلك في تحقيق سياسة التصنيع والتجميع الزراعي التعاوني، وفي كهربة البلاد، وحل قضايا القوميات، وإعداد البرامج التعليمية والثقافية والصحية. ونقل المجتمع الروسي المتخلف شبه الإقطاعي وشبه الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي متقدم وريادي، ومن ثم إلى دولة عظمى.
لم يرق للإمبريالية العالمية، وعلى وجه الخصوص الإمبريالية الأمريكية، أن ترى دولة اشتراكية حققت إنجازات هائلة على المستويين الوطني والعالمي، وغدت دولة عظمى ومنافسة لنظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لذلك سعت إلى القضاء على هذه الدولة منذ ولادتها وعلى مدار العقود السبعة من وجودها. للأسف تمكنوا أخيراً في آب 1991 من تدمير نهج الحزب وتقويض أسس النظام السياسي للدولة، بالتعاون والتحالف مع مجموعة ممن يطلقون على أنفسهم (بالديمقراطيين والإصلاحيين)، أغلبهم من المثقفين العاملين في الدولة والحزب، الذين رفعوا شعارات تضمنت إشاعة الديمقراطية، والإصلاح، والتفكير السياسي الجديد، والتعددية الحزبية، وإشاعة الليبرالية في الاقتصاد، وتحفيز اقتصاد السوق على نطاق واسع. وانتقلوا لاحقاً إلى المطالبة بإزاحة الحزب الشيوعي السوفييتي والحلول مكانه، وشجعوا الناس على التظاهر. وبعد آب ،1991 ما لبث معظمهم أن شغلوا مناصب مربحة وبعيدة جداً عن السياسة، فقد ركزوا على مصالحهم الشخصية بصورة خاصة، وبعضهم عمل خارج روسيا.
كان القضاء على التجربة التي انبثقت عن ثورة أكتوبر حدثاً مؤلماً وقاسياً، لكنه أفضى لاحقاً إلى استخلاص مجموعة من الحقائق والعبر، أهمها: أن الرأسمالية ليست الأفق النهائي للبشرية، وأن سقوط مشروع بناء المجتمع الاشتراكي لا يعني موت الفكرة ذاتها. فقد أكدت ثورة أكتوبر قدرة الشعوب الطامحة إلى التحرر والعيش في مجتمع مغاير للمجتمع القائم على علاقات الاستغلال والاستبداد، وأن الاشتراكية كمشروع للتحرر الإنساني لن تتبلور إلا كتتويج واستكمال لما سبقها من نضالات وخبرات. وإن التخلي عن الخيار الاشتراكي ضار ومدمر، إذ لم يبق لنا على الصعيد المحلي والعالمي سوى البربرية والتكفيرية والفقر والجوع والتفكك والاستقطاب الاجتماعي.
إن تقويض هذه التجربة وتفكك الاتحاد السوفييتي هي جريمة كارثية بحد ذاتها، فقد أدت إلى هيمنة قوة واحدة ظالمة ومتغطرسة، تقوم سياستها على الاستفراد والإقصاء والتهميش، ودخول العالم في دوامة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري.
ستبقى الاشتراكية أمل الشعوب، لأنها تمثل العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وهي المجتمع الوحيد الذي يصون حياة المواطنين ويحقق لهم الرخاء والرفاهية والاستقرار.
إن مجرد استذكار هذه الثورة المجيدة، التي كانت نقطة انعطاف جذرية في تاريخ العالم، وغيرته لأكثر من سبعين عاماً، والتي ستظل مضيئة على الدوام في هذا التاريخ العاصف، يعني أن هذه الثورة ومبادئها العليا في الخبز والأرض والسلم ستبقى ذكراها خالدة في وجداننا. فعلَمُ النضال ضد الظلم ومن أجل الاستقلال مازال يرفرف، رغم الضجيج بنهاية الأيديولوجيا.