كيفما تكونون يولّى عليكم!

 (كيفما تكونون يولّى عليكم).. عبارة مأثورة لا تزال حيّة إلى وقتنا الحاضر، أطلقها الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، وقد عكست بصورة دقيقة الاتساع الكبير في فكر هذا الصحابي الجليل الذي كان متقدماً على عصره، والذي استطاع أن يفهم الحركة الاجتماعية التاريخية.

إن هذه العبارة التي تلفَّظت بها هذه الشخصية البارزة في صدر الإسلام تعني في لغتنا المعاصرة، أن أي نظام سياسي هو انعكاس لمستوى تطور هذا المجتمع أو ذاك. وباختصار: لا يمكن لأي نظام سياسي قائم إلا أن يكون معبّراً عن مستوى هذا التطور، إذ لا يمكن أن يولد من  فراغ.

وإن وراء سردي لتلك الجملة المأثورة، تكمن الأزمة السورية القائمة حالياً. فقيام أنظمة ديمقراطية ذات أنماط اجتماعية متعددة في البلدان المتخلفة، هي مسألة تفتقد إلى الدقة على اعتبارها مسألة ذات طابع مجتمعي، إذ تعكس مستوى تطور هذا المجتمع أو ذاك في جميع المجالات. وبما أننا لا نستطيع إسقاط ما تحقق في أوربا الغربية على مجتمعاتنا بصورة ميكانيكية، لأن هذه المجتمعات لا تزال تعيش- من حيث الجوهر- مرحلة تسيطر فيها العلاقات البطريركية الأبوية ولم تتحول بعد إلى مجتمعات صناعية حقيقية.

إذاً، فالمسألة الديمقراطية.. لا يمكن أن تتحقق في هذه البلدان على النمط الأوربي، بل عبر تطور مجتمعي يلعب فيه الجانب الاقتصادي دوراً بارزاً من أجل إضعاف تأثيرات المجتمعات البطريركية الأبوية. فالأنظمة الشمولية التي كانت سائدة، ولا تزال في البلدان العربية، إنما هي انعكاس لمستوى هذا التطور. كان يجب أن يركز النضال في هذه البلدان على تطور ديمقراطي تدريجي مرتبط بالنضال من أجل تطور اقتصادي مترادف معه، لأن هذا المنحى هو الوحيد الذي يمكن أن يدفع المجتمع إلى الأمام باتجاه ديمقراطي. ومن هنا كان الخطأ الكبير الذي تمَّت فيه معالجة الأزمة السورية. لقد تمت معالجة هذه الأزمة من خلال الرّغبات في إحداث انعطاف ديمقراطي في البلاد وليس من خلال تحليل مستوى تطور المجتمع السوري ومعرفة ما يجب التركيز عليه ويمكن تحقيقه في هذا المجال، ويمكن دفع المجتمع إلى الأمام بخطوات جديّة باتجاه الديمقراطية، لو فهمت هذه الموضوعة لكان علاج الأزمة السورية قد اختلف، ولكان أمكن تجنيب البلاد الكثير والكثير من الخراب الذي أصابها. فمجرّد طرح شعار تحقيق الديمقراطية في سورية عبر انقلاب سياسي وبالقوة قد عكس بصورة واضحة عدم نضج القوى المجتمعية في سورية لتغيير ديمقراطي حقيقي، وقد عكس أيضاً عدم فهم عميق للواقع السوري. وهذا ينطبق أيضاً على سائر البلدان العربية لأن فكرة حرية الرأي في هذه المجتمعات غير ناضجة حسب رأيي في الظرف الراهن، على اعتبار أن ما يقمع المواطن العربي لا يكمن فقط في الأنظمة التي لها طابع شمولي، وإنما في المجتمعات نفسها. مثلاً: لا يستطيع أحد أن يبحث بموضوعية في التاريخ الإسلامي، ولا أن يبدي رأيه في كثير من المواضيع الدينية أو المذهبية الأخرى، فالمجتمع كفيل بقمعه آنذاك.

إن شمولية الأنظمة هي انعكاس لواقع كامن في قلب المجتمعات العربية وهي نتاج موضوعي لها. ولكن يبدو أن فهم هذه الحقيقة التي صاغها بصورة عبقرية الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، لم يستطع أن يفهمها مناضلو اليوم من أجل (الديمقراطية) رغم مرور أكثر من 1400 سنة على هذه العبارة المأثورة. كم نحن بحاجة الآن إلى فكر متقدم كفكر عمر الذي من شأنه صوغ عبارة أخرى تدفع مجتمعاتنا نحو تطور ديمقراطي حقيقي لا أن يستبدل بالنظام نظام آخر مشابه.

العدد 1140 - 22/01/2025