منظمات المجتمع المدني «الأهلي» ضرورة هامة للارتقاء بالمجتمع والدولة

مما لا شكّ فيه أنه لا يمكن للحكومات وحدها في أيّ بلد من بلدان العالم تنفيذ وإنجاز كل المهام والخطط والبرامج المطروحة والمطلوبة من أجل تلبية احتياجات المجتمع المختلفة والمتعددة، الأمر الذي يتطلب بالضرورة وجود منظمات مجتمعية رديفة تعمل كمساعد رئيسي على تنفيذ تلك الخطط والمهام تُسمى منظمات المجتمع المدني. 

(يشير مصطلح المجتمع المدني إلى مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية الموجودة في الحياة العامة والتي تنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية.

وتزداد الحاجة إلى هذه المنظمات في فترات الحروب والكوارث الطبيعية أو البيئية، وهو ما ينطبق تماماً على المجتمع السوري، الذي يمر بأسوأ حرب شهدها تاريخ سورية.

فمع كل ما شهده المجتمع السوري، وما يزال منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف، وعلى كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية، وبما حملته هذه الحرب من كوارث وويلات ناء بحملها واحتمالها الجميع، لاسيما الشرائح الدنيا والفقيرة، والتي لا تملك من مقومات الحياة أصلاً ما يسد رمقها، فكيف بالحرب التي أطاحت بكل مقومات الحياة الطبيعية، والتي اغتالت الأمن والأمان والسلام والعيش المشترك بين كافة أطياف ومكونات المجتمع، مع كل هذا الواقع المرير تبدو الحاجة اليوم مُلحّة وأكثر من أيّ وقت مضى لوجود منظمات مدنية تعمل على النهوض بالأفراد والمجتمع من قاع هذا الواقع إلى مستويات الحياة المقبولة.

صحيح أن هناك منظمات أهلية (خيرية- تطوعية) مُرخّصة- غالباً ما تحمل طابعاً دينياً- تعمل في المجتمع منذ أمد بعيد تحت مظلة القانون رقم 93 لعام 1958 وبنسبة تبلغ اليوم 70% من مجموع المنظمات الأهلية الموجودة بحسب مدير الخدمات الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية الأستاذ محمد فراس نبهان في تحقيق مميّز نشرته جريدة النور.(1) غير أن بعض المنظمات التي بدأت العمل في العقود الماضية في مجالات مختلفة كالمجال الاجتماعي والحقوقي وغيرها قد تعرّضت للتشويه والتخوين، إن كان من قِبَل السلطات الرسمية أو بعض الأحزاب والأفراد وبعض رجال الدين وحتى المثقفين، إضافة إلى سحب الترخيص ومنع التعامل معها عندما لم تقبل الخضوع لإملاءات حكومية تُعرقل عملها وأهدافها، كما حصل مع رابطة النساء السوريات وسواها من منظمات مشابهة، وهذا ما دفع بالعاملين في الحقل المدني إلى المطالبة بتشريع قانوني متطور ينظم عملهم يكون بديلاً عن قانون متخلّف يتبنى مبدأ الوصاية المقيّدة والتامة على المجتمع.

لذلك قامت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في العام/2012/ بإعداد مشروع قانون المنظمات غير الحكومية، استدراكاً للنقص التشريعي في قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة الحالي رقم 93 لعام 1958 الذي مضى عليه أكثر من خمسين عاماً، وتوسيع أشكال المنظمات غير الحكومية وتفعيل دورها التنموي، وتفعيل دور منظمات المجتمع الأهلي لتصبح شريكاً فاعلاً في عملية التنمية وإحداث هيئة وطنية للمنظمات غير الحكومية، وإقرار مبدأ التشاركية بين المنظمات غير الحكومية والجهات الحكومية ومنحها إعفاءات ومزايا ضريبية لتحفيزها.

ويحدد المشروع غايات المنظمات غير الحكومية بتحقيق أهداف عديدة منها: المصلحة العامة للمجتمع في المجالات الإنسانية والاجتماعية والصحية والاقتصادية والبيئية والمؤسساتية والحقوقية والعلمية والتقنية، والمساهمة في التنمية الاقتصادية وتحسين الإنتاجية وخلق فرص العمل وتطوير بيئة الأعمال، ودعم البحث العلمي والابتكار والإبداع والإغاثة والطوارئ ورعاية المرأة والأسرة والطفولة وغيرها.(2)

غير أن هذا المشروع بقي مهملاً طيلة سنتين إلى أن تناوله مجلس الشعب مؤخراً في جلسة استثنائية مطلع الشهر الجاري حسبما أوردت صحيفة »الوطن« في عددها الصادر بتاريخ 5 تشرين الثاني 2014 إذ كشف عضو مجلس الشعب جمال رابعة لـ«الوطن» أنه وفي جلسة استثنائية عقدت تحت قبة مجلس الشعب منذ أيام، تمّت مناقشة إمكانية إحداث هيئة وطنية للمنظمات غير الحكومية في سورية مهمتها الإشراف على المنظمات وتفعيل دورها في تنمية المجتمع.

لافتاً إلى أن المرحلة الراهنة تتطلب تعديل القوانين بما يتناسب مع مجريات الأحداث، ومن أجل مواكبة التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها القطر خلال هذه المدة فقد أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وبالتشارك مع ممثلي القطاع المدني والجهات المعنية الأخرى مشروع المرسوم التشريعي والقانون المتضمن تعديلات جوهرية على قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة النافذ سابقا.

وأوضح رابعة في حديثه لـ«الوطن»: إن القانون يشمل في مواده إمكانية إحداث صندوق لتوفير الدعم المالي للمنظمات غير الحكومية.

 إن التعديل المُنتظر يتطلب قبل كل شيء تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع بما يجعلها علاقة تعتمد مبدأ العقد الاجتماعي الذي يُعطي الحرية للمجتمع بأن يقود ذاته من خلال تنظيمات تُمثله تحت إشراف الدولة، بعيداً عن التخوين والتشويه، ودون فرض الوصاية والإملاءات والسياسات التي تتبنى وجهة نظر وحيدة.

يقول المحامي فايز جلاحج:

(…. أما الفلسفة التي تقيم منظومتها القانونية على أساس حق الدولة في التدخل والتحكم بحركة المجتمع، فإنها تنطلق من مفاهيم مختلفة يعود بعضها إلى إرث الماضي، أو يرتبط بنظرة أيديولوجية وعقائدية تعلن هدفاً لها تغيير المجتمع بنياناً، وفكراً ومزاجاً، وتعمل على تحقيق ذلك بطريقة إرادوية وإدارية وبأسلوب مباشر وفوقي، يتجاهل الواقع وحقوق المجتمع، ويخل بالمعادلة:  مجتمع – دولة لتصبح معادلة من طرف واحد. وبدلاً من أن تقوم الدولة بعقلنة المجتمع – كما يقول ماركس – من خلال فهم قوانينه – والسير معها بما يساعد على تطوره وتقدمه – تقوم الدولة بوقف تطور المجتمع ودفع فئات واسعة منه إلى الابتعاد والانزواء مما ينعكس على الدولة ذاتها أيضاً، فيضعف قدراتها وإمكانياتها في جميع المجالات). (3)

من هنا نجد أن لا ازدهار في المجتمع ما دام أفراده مُغَيَبين عن ساحة الفعل الجماعي المبدع والخلاّق، ومادامت باقية هيمنة الدولة على المجتمع من خلال منظمات أوجدتها لتكون رديفة لحزب واحد ظلت منذ تأسيسها تدور في فلك الدولة والحزب بعيداً عن أهداف وطموحات من قامت لتمثيلهم، مما جعلهم مهمشين ومفرّغين من كل قدرة على البناء والعطاء ليس على مستوى الذات فقط، وإنما على مستوى الوطن الذي يحتاج لجهود جميع أبنائه بعقولهم وقلوبهم. إن التطور الديمقراطي للمجتمعات العربية وتحديثها يتطلب قيام تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطاً يكمل دور الدولة ويساعد على إشاعة قيم المبادرة الجماعية واعتماد مبدأ التشاركية الفاعلة والفعّالة بين الدولة والمجتمع من خلال منظمات لا تعتمد فقط مبدأ الخيرية وتوزيع المعونات، بل منظمات تعمل على الارتقاء بالفرد والمجتمع والدولة معاً.

إيمان أحمد ونوس

مراجع:

(1) الجمعيات التنموية تبحث عن قانون يحميها- النور- العدد 589

(2) شبكة عاجل الإخبارية.

(3) نون النسوة- آذار 2005.

العدد 1140 - 22/01/2025