الخيبة
أشعر بالخيبة المرّة، كأنَّها ضبعة تنتظر قدوم الليل كي تبحث عن عشاء دسم. ويغيب الأمل تحت مظلّة سوداء وأنا أرى طوابير الناس بأرتال خمسة أو عشرة أو أكثر، يصطفون أو يتجمهرون على مواقف حافلات النقل الداخلي التي لا مواقف لها..!
أخاف من (خَثْرة) ملعونة تتحول إلى سدّ تمنع وصول الدماء إلى حقف رأسي، وأنا أرى الجماهير المناضلة تتلاطم كموج هائج خلف سيارة محمّلة بأسطوانات الغاز..
أتصوَّر الأطفال والعجائز وهم يلفّون أجسادهم بالبطانيات يتكوّمون في زوايا الغرف الباردة.. و.. و.. ويحلمون برائحة المازوت، ويناشدون أهل الخير بتقديم ليتر واحد فقط هدية لكل أسرة بمناسبة عيد ميلاد طفل اجتاز عتبة السنة الأولى، ولم يعرف بعد كيف يحلم مثل الشباب..!
أصبتُ منذ أيام بخيبة أمل تقيّحت ولم تشفَ جروحها طيلة أيام أربعة، وأنا أحاول أن أحصل على الوصفة الدائمة من المركز الصحي لنقابة المعلمين. فذهبت يوم السبت وعدت خائباً لأنني لم أتذكر أسماء الأدوية الخمسة.. وكان يوم الأحد أشدّ خيبة ومرارة والثلج يغطي الشوارع وكان المركز مغلقاً.. وفي يوم الاثنين قالت الشابة الجميلة الجالسة خلف مكتب أنيق: (سيأتي الطبيب الساعة الحادية عشرة والنصف..).. وشعشع الأمل يوم الثلاثاء وأنا مطمئن بالحصول على الوصفة المختومة لعام كامل وكان رقمي التاسع .. أما سعادتي فأعجز عن وصفها وهي تمدّ عنقها وتهمس في أذني وتتضاحك ثم تعلن أمام الطابور من معلمين ومعلمات متقاعدين ومتقاعدات معظمهم اجتاز عتبة الستين والسبعين.. قالت الهمسة بفرح عظيم: (جاء الطبيب .. وتنظر إلى ساعتها ويرتفع صوتها: إنها العاشرة والنصف.. علماً أن دوامه يبدأ في التاسعة صباحاً). وقالت أيضاً: ( سيصورون ست نسخ فقط وفي حزيران القادم البقية.. وأن نسبة الفائدة من الدواء أصبحت 60 في المئة بدلاً من 70 في المئة، أي أنها انخفضت 10 في المئة بسب (ارتفاع رواتب المتقاعدين..!!).
تذكرتُ وأنا أسير على قدمين ملّت الطرقات من نعليهما، متجهاً من مشفى الهلال الأحمر إلى المرجة، ربما أجد الحافلة الحمراء الجميلة (جوبر أتستراد المزة)، وذلك للوصول إلى اتحاد الكتاب العرب .. انتظرت عشر دقائق .. خمس عشرة دقيقة.. وطوابير الناس بالعشرات والمئات، ولا وجود لحافلة خضراء أو حمراء، فعدّتُ وخيبة تجمع نبضات قلبها وتنثرها في فضاء قارس البرودة يتجمّد بعضها وأخرى تبحث عن زاوية دافئة.. عُدتُ سيراً على قدمين بدأا يتجمّدان من (شارع الثورة إلى بيتي في حي الدويلعة). وكان نصيبي من المشي في هذا اليوم المشؤوم ساعتين ونصف شبه متصلتين.. تذكرت – بعد هذه المقدمة الخائبة – قصيدة لشاعر من العصر العباسي يلقَّب (بالأحنف) واسمه عقيل بن محمد العكبري.. تتألف من خمسة أبيات:
لا توحشنَّك خيبة الأمل
خطأ الطبيب إصابة الأجل
فلكلِّ فائتة وحاصلة
سببٌ يدقُّ على ذوي الحيل
تخفى علينا الموجبات لها
فتسوق ظاهرها إلى العلل
وأقول قولاً في جوانبه
رمز الحقيقة وهو كالمثل
لولا المرارة في المذاق لما
عرف المذاقَ حلاوة العسل
وكي لا أطيل بقول حقيقة ما جرى معي (بلا مبالغة) بل أقل بكثير من خيبة نتفت رياش قلبي وحفرت جرحاً نازفاً في جسدي، وفي قلوب ملايين المواطنين الصابرين البردانين المتألمين.. الذين بدؤوا يعانون من القلق، ويهجسون بما قرؤوا وبما سمعوا من هذا المخبر وذاك العسس ومن صغار تجار الأزمات ومن (يشْرُق) بمصاصات الاستغلال ويمزّق جيوب الناس، أن ليتر المازوت سيرتفع إلى 125 ليرات، وأسطوانة الغاز إلى 1500 ليرة وربطة الخبز إلى 35 ليرة.. وسترتفع أيضاً فاتورة الكهرباء..! والقادم أعظم..؟!
لم تكن الخيبة بخيلة إلى هذه الحدود المؤلمة، وقد فاض كرمها وازداد تهطال ثلجها ورغم ذلك، هناك ثقب. وربما يفتح الصَّبر أبواباً ونوافذ أخرى يدخل الأمل منها شامخاً.. وتعود سورية مشرقة وبهية وآمنة ومستقرة…!