الشركات المتعددة الجنسية.. سماتها.. والنظريات المفسرة لنشوئها

يتعاظم مع بدايات القرن الحادي والعشرين نمو الاكتشافات والتطورات العلمية والتقنية، فتؤدي إلى قفزات هائلة في حجم الإنتاج ونوعيته، وفي تعدد أنواع السلع، هذا التوسع في حجم الإنتاج لم تضعه شركة واحدة، بل جرى التحضير والإعداد له من قبل مجموعة من الشركات لايعرف عدد تفرعاتها، وقد لا يلتقي عاملوها مع بعضهم في أي يوم من الأيام، وقد تفصل بينهم مئات الكيلومترات. هذه الشركات هي الشركات المتعددة الجنسية. عليه، فإن سوق دولة واحدة، مهما بلغت درجة ثرائها، وحجم سلطانها، لم يتن ليستوعب هذه الوفرة في الإنتاج، كما أنها لا تشبع حلم الشركات المتعددة الجنسية.

لذا فقد دخل في حسابات هذه الشركات حجم السوق العالمي، وبات ضمن أهدافها السيطرة عليه، وبالفعل انتقلت آلاف السلع والخدمات خلال العقود الأخيرة عبر مختلف بقاع العالم، وكذلك الرساميل والاستثمارات، حتى إن تصنيع هذه السلع لم ينجز في مكان واحد.

يهدف هذا البحث إلى دراسة آلية عمل هذه الشركات، ودور هذه الآلية باعتبارها المحرك الأساسي والقلب النابض لعملية العولمة، وأثرها على الاقتصاد العالمي، وهذا هو الذي لم تتناوله إلا قليلاً الدراسات الاقتصادية التي تطرقت لهذه الشركات. ولا بد هنا قبل أي شيء من دراسة السمات الرئيسة لهذه الشركات المتعددة الجنسية.

السمات الرئيسة للشركات متعددة الجنسية

بعد تجاوز الرأسمالية الصناعية، وظهور ما يسمى برأسمالية الثورة العلمية التقنية، التي أنتجت من الاكتشافات والاختراعات ما يوفر طاقات إنتاجية هائلة لا يمكن أن تستوعبها سوق محلية مهما بلغت سعتها، اتجه طموح الرأسمالية إلى الاستحواذ على العالم بأكمله وجعله سوقاً واحدة لها. وأصبحت الظاهرة الغالبة هي تعميم العمليات التي تؤدي إلى عولمة الحياة الاقتصادية.

وهنا تبدو الشركات المتعددة الجنسية بوصفها القوة التي تلعب الدور القيادي في عملية التدويل الراهنة. فهي محرك وحامل وناقل للتدويل إلى البلدان المتقدمة المختلفة على السواء(1).

ونظراً للأهمية التي تضطلع بها هذه الشركات، لا بد من التطرق إلى سماتها للتعرف على طبيعة العمليات التي تقوم بها على نطاق الكرة الأرضية، وفهم مؤشراتها ومعالمها:

1ـ تعاظمت قوة الشركات المتعددة الجنسية من خلال توسيع هيمنتها التي كانت موزعة على احتكارات النفط والطاقة وصناعة السيارات، وامتد نفوذها ليشمل الاحتكارات المرتبطة بالإنتاج العلمي الكثيف والتكنولوجيا، يرافق ذلك تحول هذه الشركات إلى مؤسسات ذات رساميل متعددة الجنسيات لبلدان رأسمالية ودول نامية، نجمت عن اندماج الشركات المتعددة الجنسية مع الرأسمال المصرفي.

وهذا الاندماج، وإن جرى في البداية على أسس قومية، فإنه يجري على المستوى الدولي (2). فتحصل الشركات على تمويل محلي من كل بلد يمتد إليه نشاطها، وتبيع أسهمها لمواطنيه، وتقترض من بنوكه، كما تجتذب مدخرات كبيرة من بلدان العالم الثالث عن طريق البنوك والبورصات العالمية، مما يوفر لها أموالاً ضخمة لتمويل البحث وتطويره بشكل تعجز عنه الكثير من الحكومات الوطنية. وأصبح هذا التطور العمود الفقري للشركات التي أضحت في أشد الحاجة إلى ثورة المعلومات والاتصالات.

2ـ من أهم سمات الشركات المتعددة الجنسية تعدد الأنشطة التي تشتغل فيها دون أدنى رابط فني بين المنتجات الفنية. فشركة التلفون والتلغراف الدولية تملك مثلاً فنادق شيراتون وشركة تايم دارنر وتشتغل بعدد كبير من شركات النشر والإعلام والملاهي واستوديوهات هوليود، إلى شبكة الأخبار (CNN) مروراً بالتلفزيون بالكابل. وبصفة عامة تعمد الشركات إلى تنوع شديد في النشاط لاعتبار اقتصادي مهم هو تعويض الخسارة المحتملة في نشاط معين بأرباح تتحقق من أنشطة أخرى لها أسواقها المتميزة. والهدف هو أن ينمو الربح سنوياً بانتظام رغم كل التقلبات في الأسواق. وقد يصل الأمر إلى أن مجموعة مالية تفصل فصلاً كاملاً بين شركات تحمل اسم الشركة الأم مضافاً إليه نشاط خاص. وفي قائمة مجلة (فورشن) نرى سبع شركات ميتسوبيشي متفاوتة المكانات، منها للسيارات وللكهرباء وأخرى بنك، وواحدة للصناعات الثقيلة، وغيرها للكيماويات، وميتسوبيشي المصرفي وميتسوبيشي للمواد (3).

3ـ من السمات الأخرى للشركات متعددة الجنسية هو التشتت الجغرافي للنشاط، فهي تنتشر في عشرات الدول بقصد الحصول على أي ميزة نسبية في أي دولة دون أفضلية لبلد المقر القانوني، كما أنها تنتقي مواردها على أساس الكفاءة والأداء بغض النظر عن جنسية أي منهم (4).

إن هذه السمة في هذا النوع من الشركات لا يمكن دراستها بمعزل عن سمة المركزية فيها، بل يجب التأكيد على أن نمو السمتين دائماً يكون بشكل متوازن ودقيق. وهذا التناقض الظاهري بين التشتت والمركزية لا يجتمع إلا في هذا النوع من الشركات. فالعالم كله يعرف (الببسي كولا) وشفرات الحلاقة (جيليت) وغير ذلك من آلاف السلع المنتجة والمباعة من قبل هذه الشركات في أنحاء العالم. إن مثل هذا الوجود الكثيف للشركات المتعددة الجنسية لا يمكن السيطرة عليه إدارياً إلا من خلال مركزية عالية (5).

ولقد عالج نموذج (شاندلر) لتطور بنية الوحدة الإنتاجية الرأسمالية، عندما قسم بنية الشركة إلى ثلاثة مستويات، يشتمل الأول على مركز الإدارة العليا، التي تقوم بتحديد الأهداف وتضع الخطط وترسم للمستويات الأدنى الأطر التي يجب أن تعمل بمتقضاها. أما المستوى الثاني فيتألف من المديرين الماهرين، وتكمن مسؤوليتهم في التنسيق بين مديري الفروع والشركات التابعة في العالم، وهم يرتبطون مباشرة بالمستوى الأول. أما المستوى الثالث فهو أدنى مستوى في النموذج، وتقتصر مهامه على إدارة الأعمال اليومية للشركة وينتشر في جميع أنحاء العالم. يعتمد هذا التقسيم على الضبط الدقيق للاتصالات. يرى هايمر أن الاتصالات في الشركات المتعددة الجنسية أشبه بالهرم، إذ تنعدم الاتصالات في قاعدته ولا يكون هناك اتصال مباشر بين القاعدة والقمة، بل إن الاتصالات تكون بين منتصف الهرم وقمته. (6).

كما أن ظاهرة التشتت الجغرافي ترتبط بسمة أخرى للشركات المتعددة الجنسية هي سمة تقسيم العمل الدولي. ذلك أن  الإنتاج يمتاز بسعة حجمه إلى الحد الذي ضاقت به الأسواق القومية من حيث زيادة الإنتاج أو تحقيق أقصى الأرباح، فأصبح الإنتاج الحالي يقوم على درجة عالية من التخصص. ويفترض درجة عالية من التفاعل المتبادل بين الوحدات الاقتصادية، واعتماداً متبادلاً شديد التعقيد بين مختلف القطاعات الاقتصادية، ولا يوجد حالياً ناتج نهائي نتيجة منتج واحد (7).

فعلى سبيل المثال نجد أن شركة (ibm) الأمريكية تمتلك (74) فرعاً وشركة تابعة لها في العالم، وكل فرع من هذه الفروع يقوم بعمل معين ضمن عموم العملية الإنتاجية، والمركز الرئيسي (الأم) في نيويورك، حيث تجمع العقول الإلكترونية المنتجة في العديد من الدول ضمن مواصفات دقيقة ومحددة في المركز الرئيسي (8).

4ـ ازدياد حجم الإنتاج الدولي لهذه الشركات فقد بلغت المبيعات لأكبر مئة شركة أكثر من (2) تريليون دولار في الآونة الأخيرة، كما بلغت الإيرادات بخمسمئة شركة متعددة الجنسية أيضاً أكثر من 4,11 تريليون دولار وهو ما يساوي نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم تقريباً (9).

5ـ تتركز أغلب الشركات المتعددة الجنسية في العالم الرأسمالي (الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة واليابان). إذ تشير قائمة أكبر مئة شركة إلى سيطرة تلك البلدان على 88% من أصولها الأجنبية، وأن 87 شركة تعود أصلاً إلى تلك البلدان. ولم يطرأ تغيير حيوي على عدد هذه الشركات خلال السنوات الخمس الأخيرة، وإنما حدث تغير في عدد الشركات التابعة لكل دولة من دول المجموعة أعلاه. ففي الوقت الذي ظل فيه عدد الشركات ثابتاً بالنسبة للولايات المتحدة، تنامت هذه الشركات في اليابان، وانخفض عددها في الاتحاد الأوربي. (10)

هوامش

(1) فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، سلسلة عالم المعرفة (147). صفحة 107.

(2) المرجع السابق، ص 118.

(3) إسماعيل صبري عبد الله، الكوكبة: الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية، مجلة المستقبل العربي، العدد 222 صفحة 12 ـ 13.

(4) المرجع السابق، ص 12.

(5) النصيرات، محمد صادق نهار، الشركات متعددة الجنسية، رسالة دكتوراه، ص 69.

(6) مايكل تانزر وآخرون. من الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد الكوني (ترجمة عفيف الرزاز) مؤسسة الأبحاث العربية، ص 71.

(7) فؤاد مرسي، مرجع سابق، صفحة 114.

(8) جورج الراسي، الاشتراكية والشركات متعددة الجنسية.

(9) إسماعيل صبري عبد الله. مرجع سابق، ص 16.

(10) محمد السيد سعيد، الشركات عابرة القومية، ومستقبل الظاهرة القومية. سلسلة عالم المعرفة، الصفحة 25.

العدد 1140 - 22/01/2025