انتقـام المستقبـل (2)

 المحرك الثاني الذي يتحدث عنه الكاتب وهو في موقعه المرموق من القوة الأمريكية، هو (العقل العالمي)، الذي يدل عليه (انتشار الإنترنت المتزامن مع وجود قوة الحوسبة في كل مكان) (ص77) ما أدى إلى تمدد الجهاز العصبي البشري الذي ينقل المعلومات والأفكار والمشاعر من وإلى المليارات من البشر بسرعة الضوء. وهنا يعود إلينا ماكلوهان صاحب مقولة (العالم قرية واحدة) تلك المقولة المضللة والحاملة لأشكال من الأخطار (وقد بينت بعض ذلك في محاضرات وكتابات كثيرة)، فهو ينقل عنه قوله: (نحن نشكل أدواتنا وبعد ذلك أدواتنا تشكلنا) (ص82) وكأنه يقول إن شبكة الإنترنت التي هي صناعة بشرية، ستشكل العالم كما يحلو لمن يمتلك زمامها.

لانغفل عن القدرة الهائلة لهذه التكنولوجيا في عالمنا المعاصر، والواعدة بالتحكم بمصير البشر بنسبة كبيرة، ولكن دائماً يستطيع الخالق أن يتفوق على مخلوقه، لا أن يستغرق في عبادته حسبما دلت حكاية بيجماليون، وإذا كانت الإنترنت هي الوسائط التي يستخدمها العقل ليثبت قدرته، فالتفوق هنا للعقل لا للواسطة. وإذا كانت الصين تحوي من مستخدمي الإنترنت ضعف عدد سكان أمريكا، فعقل من سينتصر عبر هذا السلاح؟ وإذا كان هذا ليس من قبيل الدعاية، وقد خبرنا ما فعله التفوق الغربي الرأسمالي بالشعوب الفقيرة، فما الذي يمكن أن يفعله من يعلن مناقضة الرأسمالية؟

لا يدهشنا أن يعبد الخالق مخلوقه إلى حين، أو يتمرد عليه هذا المخلوق إلى حين، وقد تستمر هذه العبادة حين تؤكد أنها طريق النجاح والفلاح والحصول على مردود عالٍ، وهذا يترجم ما يخبرنا به غور من أن مزارعي سويسرا ومنتجي الألبان، قد ربطوا الأعضاء التناسلية لأبقارهم عن طريق جهاز يرصد دورتها الوداقية ويرسل رسالة نصية بذلك، أي إن البقرة جاهزة للتناسل(ص118)

لقد مرت البشرية بأدوار كثيرة، وفي كل دور كانت هناك دلالات على وحدة عقل ما يقود حراك البشرية أو قطاعات واسعة منها، سواء في ظل التشكيلات الاجتماعية كالعبودية والإقطاع، وقد ظهرت دلالات على السوية المتاحة لنشاط العقل في أزمنة السحر أو غيره مما تظهره علوم الأنثربولوجيا، وكذلك في مراحل لاحقة كان لمستوى تطور العقل دلالات تشير إلى وحدة ما. وقد استمر هذا في أزمنة الأديان وانتشارها على مساحات واسعة من المجتمعات البشرية، بما تتطلبه من وحدة التفكير ووجهات النظر والنشاطات. فالعقل لم يعدم سابقاً شكل الوحدة مطلقاً، دون أن يعني أن القادم هو من جنس وفعالية ماعرفناه سابقاً. هنا لايمكننا إلا التوجس أو إعلان الاستبشار، والخوف والتفاؤل مشروعان في قراءتنا لما يشير إليه آل غور، فالبشرية أنتجت حاكمها المتمرد شكلاً على إداراتها، والخاضع فعلاً لهذه الإرادة غير الموحدة، من خلال حاكميته على القوى الفاعلة وتأثيره بقوة لا تضاهيها حتى قوة الأديان التي لا تعترف بالإرادة البشرية، وبمنطق لا يحتكم سوى لسرعة الاستجابة، وقرارات الوسائط الأسرع والأقوى التي تؤمنها الكومبيوترات العملاقة. ولا تشبه هذه القوة، أي قوة العقل العالمي المشار إليها، أية قوة ظهرت في أية مرحلة من مراحل التاريخ، خاصة في عمقها وشمولها.

***

التكامل الاقتصادي والشبكة الرقمية، يؤديان إلى محرك ثالث هو (ميزان القوى) الذي : (يتغير بشكل كبير تماماً مثلما أدت الثورة الصناعية إلى هيمنة أوربا الغربية والولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي) (ص137) وهنا يقر بأن الصين أصبحت الدولة الرائدة في مجال التصنيع في العالم، لتنهي فترة القيادة التي تمتعت بها الولايات المتحدة الامريكية على مدار 110 أعوام، أي منذ بداية القرن العشرين. فهو يرى :(أنه لم يسبق أن كان صنع القرار لدى الحكومة الامريكية منذ تسعينات القرن التاسع عشر بهذا الضعف والاختلال والخنوع للشركات والمصالح الخاصة الاخرى،كما هو عليه الآن) ويتابع!: (جسامة الخطر الذي يشكله انحطاط الديمقراطية الامريكية، لايزال غير مفهوم على نطاق واسع) (ص139).

الغطرسة لا تفارق الأمريكي الذي يرى أن أمته (الأمة التي لا غنى عنها) في الحد من الصراعات التي يمكن تجنبها. وربما كان الكثير من هذه الصناعات صناعة أمريكية بجدارة. وماذا نفعل لحضارة بدأت رحلتها نحو السيادة بإبادة 120 مليون من سكان البلاد الأصليين، كما تقول بعض التقديرات، ويشير التأريخ للمسألة أنهم اعتبروا ذلك عملاً رسالياً أوكلته إليهم السماء كفعل من أفعال السمو الأخلاقي، وربما ظهر أن الكثير مما يتباهون به من أعمال الرفعة والقيادة، هو من هذا القبيل.

لقد كشف من يتحدث عن ضمير العالم في أمريكا مثل نعوم تشومسكي عن أن أمريكا التي يراها غور في موقع القيادة الأخلاقية، هي منذ اكتشافها عام 1492 قد بدأت بغزو العالم كما ينطق عنوان كتابه الذي ألفه عام 1993 بعد نصف ألفية (سنة 501 الغزو المستمر). لكن العقل الامبريالي الأمريكي إن لم يفِضْ غزواً ودماراً على العالم، فإنه يفيض منة وشعوراً بفضل أمريكا على البشرية، ودليله وجود نص رفيع كالدستور الأمريكي، وكأنه كافٍ لاعتبار أمريكا أمة أخلاقية، وسياستها أخلاقية رفيعة، حتى وهي تقتل البشر في أنحاء المغمورة، أو وهي تلقي قنابلها الذرية على اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحمي عتاة المجرمين في العالم من أمثال من اغتصب فلسطين. وهذا يثير الدهشة، بل الخيبة والقرف!

إن الخواء الذي أصبحت السياسة الامريكية تمثله وتصنعه في نظر أحد قادتها البارزين مثل آل غور، يناقض الشعور بالعظمة، وهو لا يرى في مجموعة العشرين التي نظمتها وتقودها أمريكا سوى المظهر المشهدي في ارتداء قادتها قمصاناً موحدة تشير إلى ثقافة البلد الذي يستضيف اجتماعها، وتستحضر في الذهن(الحكاية الرمزية للطفل الذي لاحظ أن الإمبراطور كان عارياً، بيد أنه في هذه الحالة، الملابس ليس لها إمبراطور) (ص140) وهو إذ يقر أن توازناً جديداً يتوقع أن يظهر، حيث تتقاسم أمريكا السلطة على العالم مع الصين، فإنه يغض الطرف عن أن الشيخوخة أو التراجع عندما يدب في جسم ما لا يتركه قبل أن ينهيه، هذا من المبادئ التي تناقلها الباحثون كثيراً عن ابن خلدون، فليتأكد غور من خروج أمريكا من هذا المأزق بسلامة أولاً، بحيث يتوقف التآكل في دورها، وبعد ذلك فليتقاسم السيادة والزعامة مع من يريد مستقبلاً. أما في الوقت الراهن، فلاتزال هذه القوة العظمى لها الدور الفعال الأقوى على مستوى العالم. إنه يرى أن اقتناع الآخرين بالدور القيادي، يمر عبر السلطة الأخلاقية، وهذا ما تؤكده أمريكا، وإذا كان دستورها وإعلان حقوق الإنسان يمثلان هذه السلطة في العالم فإن هذا الصرح الأخلاقي في نظر الشعوب ينهار أمام السياسات الامريكية العدوانية وهمجيتها. وهل النصوص كافية لصناعة الأخلاق؟!

يعود دائماً للحديث عن تراجع الديمقراطية، وهنا بعد أزمة 2008 وفي الوقت الذي لعبت فيه الإنترنت دوراً هاماً في أحداث (الربيع العربي)، فإن التنبؤ بالتراجع المطلق في قوة الولايات المتحدة بالنظر إلى وجود الجيش الأقوى تسليحاً وتدريباً وإنفاقاً، لابد أن يوضع بالحسبان بسبب أعباء الحروب التي خاضتها أمريكا وألقت ظلالها القاتمة على قوة الجيش الأمريكي مثلما على الثروة الاقتصادية الأمريكية. وهنا يشير إلى فشل السياسات الأمريكية، دون أن يشير إلى صعود قوى عالمية بقواها الذاتية المعبرة، كما لا يتوانى عن إبراز العطب الذي تشير إليه قدرة الشركات على التحكم بالقرار السياسي أو الاستراتيجي الأمريكي، من خلال تحكمها بالاقتصاد، بحيث يشير إلى المحامين الذين يمثلون الشركات الكبرى وجماعات الضغط وهم يحضرون في جلسات الصياغة الفعلية التي تجري فيها كتابة التشريعات في الكونغرس. ما يعني أن هذه التشريعات تكتب برعاية هذه الشركات وضمان عدم المساس بمصالحها، أياً كان موقف الحكومة، وهذا من مظاهر شلل الديمقراطية كما يرى غور، الذي يؤذن ب (التغيير الكاسح والهائج في النظام العالمي، في وقت لم يسبق أن كانت فيه الحاجة إلى دعوة الولايات المتحدة إلى المبادئ الديمقراطية والقيم الإنسانية أكبر مما هي عليه الآن) (ص125).

الأمر اللافت أن غور بالرغم من هذه المظاهر التي يذكرها، وتشير إلى سقوط واضح، مثل شراء الأصوات في الانتخابات وبيع وشراء القوانين المفصلة وفق الطلب، وهيمنة الشركات على القرار السياسي، وفقدان التلاحم الذي برز في أمريكا خلال مواجهة الشيوعية التي باختفائها(حسب قوله) بقيت الرأسمالية الديمقراطية هي الأيديولوجيا المختارة في كل العالم، وقد أصبحت الولايات المتحدة بين أكثر الدول الديمقراطية المتقدمة التسع عشرة في العالم، أعلى نسبة من عدم المساواة في الدخل وأعلى معدل للفقر وأدنى مستوى في رفاه الأطفال، مع السوء الفاضح في توزيع الثروة، وفي المديونية العالمية، وغير ذلك من مؤشرات تقلص دور الحكومة. إلا أنه يتحدث عن كل ذلك بنبرة من يرى أنه يمكن إصلاح كل هذا الخلل الذي لن يزحزح أمريكا عن مركز قيادة العالم، حتى وهو يشير إلى مشاركة آخرين كالصين. ولايزال يضع الشروط لاستمرار النفوذ، أو لنفوذ الآخرين. ولا تفوته الإشارة إلى (الغزو المضلل للعراق) الذي شكل في نهاية المطاف (صفعة قاسية لسلطة الولايات المتحدة وهيبتها ومكانتها في العالم) (ص185).

العدد 1140 - 22/01/2025