السياسة بين الاختلاف والعنف

لايمكن تحديد مصطلح ماهية السياسة دون تحديد إطاره التوصيفي فنقول مثلاً:  سياسة داخلية أو خارجية، اقتصادية أو تربوية أو إدارية إلخ… أما مضمون السياسة فقد يكون سلطوياً أو دينياً أو مدنياً أو شمولياً بالرغم من عدم وجود تعريف جامع مانع للمفاهيم الإنسانية فإن المتفق عليه إن السياسة علم وفن:

علم: متاخم متداخل معرفياً مع العلوم الأخرى (التاريخ، الاقتصاد، علم النفس) يُخضع مفردات المجتمع للتحليل والبحث والاستقصاء فهو عصب الحياة وقد اعتبر أرسطو السياسة علم السيادة سيدة العلوم لها الأولوية بنظر لينين عندما قال السياسة أولاً فكل المعطيات تشير إلى أن السياسة علم له أصوله الأكاديمية ونظرياته العلمية أدواته المنهجية وتراكم معرفي ممتد وشامل.

فن الممكن: في إدارة الاختلاف وتبني الحوار ونبذ العنف وفن الممكن في السياسة ليس خياراً من الخيارات المطروحة فحسب وإنما صنع خيارات جديدة كفعل الإرادة الذات الفاعلة التي تلعب دورا في تكوين الواقع واستنزافه إلى حدوده القصوى دون تجاوزه بهذه الحالة نكون قد أعدنا الاعتبار للممكن في السياسة كي لا يُفهم بأنه تبرير الخضوع لواقع ما أو إعطاء الشرعية لخطوة ما أو التركيز على الجانب المساوم الذي هو لحظة من لحظات الممكن  ويصبح الممكن بهذه الحالة هو المعروض بإرادة الخصم الذي يضع حدوده فهذا  المنطق  إخصاء لمقولة السياسة فن الممكن لأن الممكن أفق يمكن إيصال الواقع إليه عبر حده المتحرك كقطعة المطاط. إن موضوع السياسة غاية في التعقيد، فالظواهر السياسية عملية تتقاطع فيها وقائع اجتماعية، اقتصادية، قانونية بحيث يجد كل فرد  نفسه مشتركاً فيها بطريقة ما في لحظة ما لا يمكنه تجنبها أو تجنب النتائج المتولدة عنها أو الخروج من دائرتها.

وإذا كان الاختلاف موجوداً في الطبيعة لصيقاً في المجتمع البشري منذ القدم في الاقتصاد والتربية والفكر فإن قبوله  يعبر عن ارتقاء في الحالة الثقافية الفكرية التي تستغرق وقتاً طويلاً في مسيرة التطور الاجتماعي كي تترسخ وتتجذر كحالة بنيوية لا تحصل بقرار سياسي فوقي بشكل قاطع حدي، و يصبح من الصعب هزيمتها في السياسة بعد أن تتصلب في الفكر والثقافة فالاختلاف مدعاة لتوليد كل جديد  ودليل قوة منعة وثقة بالنفس دعت إليها الأديان السماوية ففي المسيحية وصل الأمر إلى اعتبار محبة المختلف شرطاً للوصول إلى الإيمان المسيحي كان مثاله الأعلى السيد المسيح، في الدين الإسلامي أكد حرية العقيدة نفي الإكراه (لا إكراه في الدين) الحديث الموجز المعبر (اختلاف أمتي رحمة) يقدم كل المسوغات لاحترام المختلف. يتحدث علي الوردي في سياق تحليل شخصية إشكالية في الإسلام بين الوهم الحقيقة (عبد الله بن سبأ) عن أن الاختلاف أحد مبادئ الضرورة، فالمجتمع يسير على رجلين إحداهما تثبت كي تتحرك الأخرى صانعة التقدم للانطلاق إلى الأمام بينما الثبات والركون للمسلمات الموروثة تعمل على مبدأ المراوحة في المكان وطالما كان الاختلاف لصيقاً بالمجتمع البشري فإن السياسة بهذا المعنى صمام الأمان الذي يمنع الاختلاف من الوصول للعنف كنهاية منطقية كونها تتوسط ثلاثة مظاهر (الاختلاف – السياسة – العنف). من هذا المنظور فإن السياسة غير مرئية في المجتمعات البدائية المتخلفة إذ لا توسط بين الاختلاف العنف بل مرور مباشر، ولكن في أحيان أخرى تختلط الحدود لتجعل من العنف أو الحرب امتداداً للسياسة كما يقول كلاوز فيتز  فالعنف سياسة قصوى والسياسة شكل معدّل من العنف. لقد كان معاوية بن أبي سفيان بارعاً في قوله: (لا أضع سيفي حيث يكفيني صوتي ولا أضع صوتي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني بين الناس شعرة ما انقطعت  قيل وكيف قال: إذا مدّوها خليتها وإذا خلوها مددتها).

إن المتتبع لظاهرة العنف وانفجاره أفقياً وعامودياً في منطقتنا العربية يكتشف أن جرعة العنف تزداد بفعل تقلص جرعة السياسة إن الأزمة التي نعيشها في جزء منها يمكن اختصارها في أزمة انحباس السياسة لأن الصمام الذي يمنع الاختلاف الذي يصل إلى العنف صمام مغلق بفعل وطأة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية  والأثر المضاعف للتدخل الخارجي تحت شعارات براقة إضافة إلى إفراغ الساحة من الأحزاب السياسية المنظمات والنقابات الفاعلة وتقييد الصحافة وضعف المشاركة السياسية إنها الأشكال الحديثة للممارسة السياسية وذلك كله ولّد خلطة متفجرة ولدّت ميلا إلى ظهور ما تحت اليد من تحيزات طائفية ومذهبية تصدرت المشهد السياسي بديلاً للساحة السياسية في الصراع الاجتماعي، وحين تخاض السياسة بهذا المنطق فذلك دليل على فشلها في أن تتحقق بشكل طبيعي ضمن مسارات مفتوحة. لا يمكن الاعتقاد بأن الدول العربية أو المجاورة بمنأى عن ما يجري لأن الفارق في سماكة جدار طنجرة البخار المغلقة (طنجرة مدرعة) دُرعت بثلاثية (النفط – الإعلام – الفتاوى) كي تتحمل مزيداً من الضغط لكن ما يفصلها عن الانفجار إذا بقي الصمام مغلقاً مزيد من الوقت ليس غير. ولنا كلمة أخيرة في إنصاف السياسة التي ظُلمت إذ ألصق بها ما ليس فيها من تهم المكر والدهاء، واللف والدوران، والرياء والتضليل، حتى أن محمد عبده قال عنها (أعوذ بالله من السياسة من ساسة يسوس سائس مسوس) لكن حقيقة الأمر إن السياسة مفهوم حيادي بينما العقل السياسي الممارس عقل متحيز قد يمارسها على مبدأ مكيافيلي (الغاية تبرر الواسطة) أو كما مارسها محمد علي في حيل السياسة أو كما تمارسها أمريكا وأخواتها في العالم كسياسة كريهة. وقد تمارس السياسة بشكل نزيه نظيف أخلاقي (وإن كان لا طهرانية في السياسة) تمارس لتحقيق المصلحة العامة الوطنية والقومية والإنسانية للخير والنفع العام للمواطنين والحفاظ على وجود الأمة وحماية الأوطان ومواجهة التحديات الداخلية الخارجية، إن الذي يضفي على مفهوم السياسة هذا الشكل أو ذاك هو المعالج الذي يجب أن يراجع أعماله وسلوكه وآراءه كي يصل في سياسته إلى درجة يرضى عنها ويتقبلها المجتمع.

العدد 1140 - 22/01/2025