سلالم الصغار
كما كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر رويداً رويداً، بعد أن يجد تربة صالحة وماء وشمساً وأيدي حانية ترعاه، بدأ صالح مسيرته المظفرة (مستخدماً) في دائرة حكومية وهو في مطلع شبابه، ينبض قوة وحيوية، يسارع لتلبية طلبات مديره بهمة وفرح، مما جعل (المعلم)، كما كان صالح يحب أن يقول عن المدير، يعطيه كامل الثقة ومفتاح المكتب ليقوم بتنظيفه وترتيبه قبل بدء الدوام، إذ يصل صالح قبل جميع العاملين بفضل وسيلة مواصلاته المميزة، دراجته الهوائية (الفيليبس) الأصلية التي لم يَعُدْ يوجد منها في أيام البضاعة الصينية الستوك التي يغرق بها (تجار الصدفة) والعلاقات أسواق البلد، دراجته المزينة والمزركشة التي يحفظها كل العاملين في الشركة، بينما كان المدير يحار كل صباح أي سيارة يمتطي من أسطول سياراته التي خصصها لنفسه، بصفته الآمر الناهي في الشركة، بفضل الله أولاً، وبفضل عديله (أبو همام) ثانياً، كما كان يردد في مجالسه الخاصة، عدا تلك التي أهديت إليه من رجال أعمال لديهم مصالح عميقة معه ومن متعهدين وسماسرة وتجار.. ثم يمر على مراكز القرار والمصائر ليقدم الولاء وما وسعت يداه من عطايا الله.. فيأتي ليجد صالح قد هيأ له الجو تماماً ليبدأ نهاره بعمل مضن وشاق لكنه مثمر، مثمر جداً لدرجة أنه خلال أقل من عشر سنوات أمضاها على كرسيه في الشركة استطاع أن يدخل شريكاً مخفياً في شركات وعقارات وبنوك، وكله بفضل الله و(أبو همام).
قصة صعود صالح بدأت من هنا، بدأت كمزحة سمجة منه حين وجد صالح في بريد المعلم بطاقة دعوة إلى حفل استقبال يقيمه مسؤول كبير في الحكومة بمناسبة هامة، وخطرت فكرة خطيرة لصالح، أن يرافق معلمه إلى الحفل فيكون بجانبه ويلبي طلباته أولاً، ويرى أجواء هذه الحفلات ثانياً.
طلب من المدير فور وصوله أن يرافقه الى تلك الحفلة.
أي حفلة يا صالح؟
– (في هون بالبريد معلم بطاقة دعوة، بس خليني روح معكون هالمرة معلمي)!
– لا يا صالح لا تروح معي، خود البطاقة وروح لحالك.. انبسط، لا وقت لدي لحضور هذه المناسبات.
لم يصدق صالح ما يسمعه، وفور وصوله إلى البيت أخرج من خزانته، الطقم الرسمي الوحيد لديه، طقم العرس، الذي لم يلبسه سوى مرات قليلة، رتب أموره وحلق ذقنه ولبس الطقم وتأكد من وجود بطاقة الدعوة في جيبه، تحسسها مطمئناً، ثم ركب دراجته ومضى إلى الحفل.
وضع الدراجة في مكان آمن بعيداً عن موقع الحفل، ودخل في زحام النازلين من السيارات الفارهة الذين يحيط بهم الخدم والحشم ويدخلون إلى القاعة المخصصة بعد إبراز البطاقة المذهبة، دقائق وصار صالح مع علية القوم الذين توزعوا في أرجاء القاعة يتبادلون الأحاديث والنكت وتعلو ضحكاتهم، وخلال قيامه بملء صحنه من المائدة المفتوحة تجاور مع أحد المسؤولين الكبار، صافحه بحرارة وسأله عن الحال والأحوال والعائلة والشغل، فرد المسؤول وأعاد طرح الأسئلة عليه ظناً منه أنه (زميل) نسي ملامحه، وخجل أن يسأله من هو، ثم بدأ صالح يتنقل من مدير إلى مستشار إلى وزير، وهو يتبادل الأحاديث معهم ويقلدهم في طريقة حمل الصحن وتناول محتوياته، حتى وصل إلى صاحب الدعوة المحاط بعدد كبير من المدعوين، في غمرة انشغاله بضيوفه تقدم منه صالح وسلم عليه وهنأه وهنأ الوطن بالمناسبة السعيدة، والتقطت له صور وهو يصافحه، ثم وهو يتجاذب معه أطراف الحديث، وقد سأله صاحب الحفل: من أنت؟ فقال بثقة وبسرعة أنا مدير مكتب الأستاذ فلان (مديره) فسأل عنه وأين هو؟ ورد صالح سريعاً أيضاً إنه مسافر في مهمة عاجلة.
في اليوم التالي كان المدير يشاهد صور صالح في الحفل برفقة علية القوم وهو يضحك من أعماقه، ثم سأله:
(لأي صف دارس يا صالح)؟
(معي تاسع معلم، وقدمت بكالوريا سنة وحدة وما نجحت..).
(بدك تقدم البكالوريا السنة يا صالح، ويا ويلك إذا ما نجحت..).
وبدأ صالح يعد للبكالوريا، ويواظب على حضور كل مناسبة يدعى إليها مديره ولا يذهب، حتى حفظ الكثيرون وجهه بسبب ظهوره في الصور والتلفزيون مراراً، بل إن زوجته صارت تتباهى أمام الجيران كلما ظهر صالح على شاشة التلفزيون.
لم تمض سنوات حتى أنهى صالح الجامعة، بعد أن رقّاه مديره وسلمه موقعاً مهماً في الشركة يريد لشاغله أن يكون من خدمه الخلّص، ولأنه لن يستطيع ترقيته أكثر إن لم يحصل على الشهادة الجامعية.
الخبر الأخير: ما إن ارتأت القيادة نقل المدير إلى مكان أعلى وأهم حتى صار صالح مكانه، وعلى الكرسي نفسه الذي كان يمسحه ذات يوم من الغبار ويطبطب عليه برفق.