سفر لصوصية الآثار والأخلاق
احتضن الشرق ميلاد الأفق الإنساني، ونهض بأحجية الوجود وخفاياه، فتوجب على الغرب الوحشي استلاب نفائسه وتوطين نسغها في أوردته. لأن من يملك يحكم، ومن يسيطر يدجن التاريخ.. لذا تسقط متاحفنا أثناء الحروب ضحايا النهب والسلب إشباعاً لغرور المترفين.. وعن هؤلاء المتسللين يروي الكاتب الألماني (أوفه شومبورغ) صيرورته الروائية (شيفرة بابل).
تتصدر الرواية كلمات يوحنا بولس الثاني، التي تمهد الطريق أمام (شومبورغ) لبحث موضوع سرقة الآثار في الشرق الأدنى ومصر: (تعتقدون أن بإمكانكم فهم هذا العالم. وهذا غير صحيح. إنه يخفي أسراراً لا تصدق.. جعلتم من عقولكم مرشداً، وظننتم أن العالم لا يملك سحراً.. على الرغم من أنكم لم تستطيعوا فهم حتى أبسط ظواهره: متى بدأ الزمن؟ أين هي حدود الفضاء اللامتناهي؟ فلتكن لديكم الشجاعة لكشف السر). والسر هنا يتمثل في اللقى الأثرية البابلية التي تقدم مفاتيح الخلود لمن يفك شيفرتها. وحجب الأسرار سيكون من حصة الأصوليين، أمثال الأمريكي مارفن الذي وجد طريقه إلى الله في فيتنام من خلال الحرب، ثم أسس جمعية سرية منبثقة عن محاكم التفتيش. يساعده فريق أمني هدفه مطاردة الآثار، لأن اعتراف الكنيسة بجمعيتهم كأخوية دينية مرهون بحيازة اللوائح السومرية.
تتوزع الرواية على خمسة كتب، تغطي زمنياً مرحلة النهب المتواصل لآثار بابل بين عامي ،1916 و2005. فالكتاب الأول يقودنا إلى عهد الخلافة العثمانية المترنحة، وزمن الحروب العالمية، وما تلاها من فوضى أمنت غطاء ممتازاً لسرقة اللقى الأثرية النادرة. ثم يبين كيف استقرت تلك اللقى في حوزة أسرة ألمانية، امتهنت الاتجار بالآثار النادرة، حتى انتهت إلى الحفيد فورستر، الذي يدفعه موته الوشيك للتبرع بها إلى المتاحف العامة عن طريق اليونيسيف. ونظراً لطمع اللصوص بمقتنياته يوظف شرطياً سابقاً يدعى كريس لإيصال اللقى إلى مستحقيها. فتتوزع الحبكة الروائية على الأجزاء الخمسة، وتُنكِّه العمل بطابع المغامرات البوليسية.. من ناحية أخرى يتركز هدف المطاردات على الألواح السومرية الاثني عشر، والعظام المرافقة لها. وهي مستحاثات تعود لنوع من السلالة البشرية لم تعد موجودة في يومنا هذا.. أما الانتشار المكاني فواسع إذ يتضمن عدة مدن ألمانية وأوربية، إضافة إلى الفاتيكان. وإقحام البابا بندكت في الأحداث جاء لإسباغ خلفية شرعية على صراع العلم والعقيدة والتطرف، وتوظيف المكتشفات العلمية لبناء رؤية جديدة تفسر العالم وتخفف الصراع. لذلك يوازي (شومبورغ) بين نصوص العهد القديم وترجمات الألواح السومرية، ليشكل حزمة من الأدلة تدين تواطؤ العلماء ومشروعية تجاربهم على البشر، وتندد بخضوع المؤسسات العلمية لقانون الربح..
حلم البابا المتكرر عن الراعي الذي يخذل رعيته، يشكلان مدخلاً ملائماً لمناقشة موضوع الألواح السومرية. التي يعود ستة منها إلى عهد نبوخذ نصر الثاني، وستة إلى القرن الثالث قبل الميلاد. مما يجعلها مقتنيات فريدة وثمينة، تخلو من مثيلاتها متاحف العالم.. ويعد تفسير رموزها علماً قائماً بذاته، يطلق عليه علم الآثار الآشورية..
يستعين شومبورغ بشخصيات متخصصة تقوم بوساطة الحوار بشرح مضمون هذه الألواح وأهميتها التاريخية. فالبروفسورة سولنر توضح لكريس كيف أخبر نبوخذ نصر في ألواحه عن احتلاله لكيش، ونقل كل المحتويات المقدسة التي كانت موجودة في معبد (نينورتا) في (كيش) إلى بابل. لقد أعاد توحيد المملكة، وأخذ معه عظام الراعي لمعبد (نينورتا)، الذي كان إله المدينة في كيش. وتقول المصادر إن (زبابا) إله (كيش) قد تجلى بداخله.. وراعي المعبد هو الملك الذي وحد المملكة السومرية: (قدس راعي كيش، الذي أُعطي الملك من قبل، كأول من وحّد الرعية لخدمة الإله وأتباعه).
واقتران المقدس بسلطة القوة أمر يرده لافاليه اللاهوتي المختص بعلم الآثار الآشورية، إلى عالم الآلهة في بلاد الرافدين. فمردوخ إله مدينة بابل، يرتقي ليصبح المسيطر على جميع الإلهة. لأن عظمة إله مدينة ما، تزداد كلما ازدادت قوة ملك تلك المدينة. أي أن الوصول إلى الهيمنة الكلية الرمزية لا يتأتى إلا بالسيطرة على (كيش)، إذ يفترض أنه بدأ الحكم الملكي.. فبعد الطوفان الكبير نقل الآلهة المملكة إلى (كيش) لمعاقبة الرعاة السيئين ولتوحيد الرعية على طاعة الآلهة وتشييد مملكة عظيمة. وبالتالي غدت بابل الفأس وأداة الحرب، لدحر شعوب وممالك لا تطيع أمر الآلهة! ولهذا حرص اللصوص على سرقة عظام الراعي من بابل، إذ تمثل اعترافاً بالسلطة الشرعية لمن يحوزها.
تتحدث الألواح الستة الأقدم عن ملك عاش بعد الطوفان الكبير، أما الوصايا فتعود إلى (نينورتا) رسول الآلهة وإله (كيش): (..سأوكل أمر رعيتي إلى راع جديد، وسيقودها عبر المراعي ويعتني بها ويحترم إرادة الآلهة… يا ملك كيش، وحد الرعية لتشيد مملكة عظيمة، وتذكَّر: عدم تقديس إلهكم والتجديف به، تقديم الأضاحي لآلهة زائفة، القتل، السرقة، الخيانة الزوجية، الحلف الكاذب، كل تلك خطايا يجب على الشعب نبذها…).. أي أنها الوصايا العشر بصورتها الأولية القديمة.. ومحتويات الألواح تتشابه مع نصوص كثيرة من بلاد ما بين النهرين ومصر ومملكة الحثيين وأوغاريت، وهي معروفة منذ زمن طويل.. مما يفسر دوافع العهد القديم وشروط المجتمع، وحتى نظرة الرب إلى إسرائيل القديمة.
ومن أجل مزيد من الغموض يفترض شومبورغ وقوع اللوح السومري الثالث عشر بيد البابا بندكت، الذي يخفيه عن العوام ، إلى أن يضعه إلحاح كريس في مواجهة مع حقيقة شيفرة بابل: عندئذ قال الرب: (انظر لديك القوة، وعلى الرغم من ذلك فإنك إنسان، وستبقى كذلك. سأهبك ألفاً وخمس مئة عام، حتى تعيش وتتحقق إرادتي من خلالك. وفي نهاية أيامك سوف تصعد روحك إلى السماء)..
لمسار القوة دورة تنتهي، لتبتلع معها صورة (الإله المحب للانتقام)، والتي أبدتها عقول متحجرة في نفوس ميتة. عندئذ ستشرق الحكمة من منابعها الأصيلة، فلا تنفع الوحشيين آثار مسروقة من أوابدنا.