النقد الأدبي ورهبة الأسماء الكبيرة
استوقفتني مقالة لافتة نشرتها صحيفة (البعث) في عددها الصادر بتاريخ 11 /2 / 2013 للكاتب حسن حميد بعنوان (باولو كويللو.. يكذب)، صوَّب عبرها سهام نقده الحادة نحو الكاتب البرازيلي الشهير، مستغرباً ومستهجناً ما يراه من احتفاء غير مبرر بنتاجه ورواج منقطع النظير لأعماله. يقول حسن حميد:
(أكاد لا أصدق أن كاتباً يدبج كل ما هو سطحي ومتهافت تحت مسمى رواية، فيطبع وينشر ويترجم، ولا أحد من أهل النقد ينهض فيقول له: هذه ليست روايات، بل هذه ليست كتابات أصلاً، لأنها غثة باردة. أكاد لا أصدق أن كاتباً بمفرده يستطيع أن يخدع المترجمين ودور النشر والنقاد والقراء – كلا أو بعضاً – بأنه كاتب عالمي، وكتاباته كلها تقريباً باهتة ومملة، وهذا الأمر مستمر طوال سنوات ولا أحد يزم شفتيه استهجاناً…).
ثم ينتقل كاتب المقالة للحديث عن حرص كويللو على تبييض صفحات اليهود عبر إقحام أخبارهم وأحلامهم في كتاباته على نحو فج وخارج عن السياق.
استوقفتني هذه المقالة لسببين.. أولهما ذاتي نابع من شعوري بالامتنان العميق لكاتب المقالة الذي وجدت في رأيه الصريح الجريء خير تعبير عما كان انتابني من حيرة وخيبة لدى فراغي من قراءة رواية كويللو الأشهر (الخيميائي)، التي وددت لو أنه ساقها مثالاً نموذجياً يضفي المزيد من الموضوعية إلى ما ذهب إليه من نقد لأدب باولو كويللو. وأما ما أورده عن محاباته لليهود وتزلفه لهم وحرصه على تبييض صفحاتهم السود فلن يشكل (على أهميته) أية مفاجأة أو صدمة للمواطن العربي الذي اعتاد سماع مثل هذه المواقف المنحازة، التي غدت أشبه بعرف قلما يخرج عنه طامح بارتقاء سلم الشهرة في مختلف المجالات. وقد سبقه إلى مثل هذا النفاق من هم أعظم منه شأناً وأجل قدراً.
أما السبب الثاني والأهم لتوقفي ملياً عند هذه المقالة فهو موضوعي بعيد عن الاختلاف والاتفاق مع مضمونه، ويتعلق بوظيفة النقد الأدبي ودوره في الحركة الأدبية.
فالمتتبع لما يُكتَب من نقد هذه الأيام يلاحظ أن جلّه لا يكاد يخرج عن اتجاهين نمطيين يوظفان تبعاً لموقع الناقد والمنتقَد على مقياس الشهرة. فإما انتقاد موجه من الأعلى إلى الأدنى يغلب عليه الطابع الوعظي الإرشادي الأقرب إلى الأسلوب المدرسي، والذي قد يصل إلى حد التجريح والتوبيخ أحياناً. أو نقد من الأدنى للأعلى متخم بالمصطلحات الرمادية المبتكرة الرنانة، يحول دون موضوعيته حرص صاحبه على التزام جملة من الخطوط الحمر التي غالباً ما تفرغه من مضمونه وتحيله إلى ما يشبه حفلة مديح ورياء.
بخروجه عن هذين الاتجاهين تبرز فرادة المقالة السالفة الذكر التي آثر صاحبها أن يقول كلمته بحق كاتب عالمي طبقت شهرته الآفاق، غير عابئ بما قد يستقطبه مثل هذا الرأي الصريح من ردود وتعليقات من يخالفونه الرأي والهوى، وهم أكثرية ولا شك. مع علمه مسبقاً – وهو خير العارفين – بالأدلة والبراهين التي يمكن أن يحاجَج بها، ناهيك بالاتهامات التي تساق في مثل هذا المقام أحياناً.
بكل جرأة ومهنية، أثار مجدداً تلك الإشكالية الشائكة حول الكم والنوع.. معيداً طرح ذات السؤال القديم: هل يمكن اعتبار رواج المنتج الأدبي مقياساً فيزيائياً مطلقاً لقياس جودته وقيمته الفنية، أم هو مجرد مؤشر على نجاحه ودليل على حِرَفية صاحبه ومقدرته على استقراء أهواء المتلقي (الجمهور)؟ إنه يذكرنا بالفارق الجوهري بين المنتج الأدبي – والإبداعي عموماً – والمنتج الاستهلاكي.
نعم.. هي مجرد مقالة مقتضبة لا ينبغي تحميلها أكثر مما تحتمل، حصاة صغيرة ألقيت في بركة المشهد النقدي الراكدة نأمل بالمزيد منها، لعلها تسهم في تحريك ركود هذا المشهد، وتبث فيه شيئاً من روح التفاعل الخلاق بين مكونات المجتمع الثقافي المطالَب باستعادة ثقة المتلقي، الذي ملّ خطاب الحياد السلبي ولعبة تقارض الثناء وغيرها من تجليات مبدأ (السلامة أولاً)، وتاق لصخب المناكفات والمشاحنات الفكرية التي تلقح الأفكار وتقدح زناد المخيلة، ويتطلع بتلهف لالتقاط قبس من ذلك الشرر المتطاير من صدام الأنداد الأضداد.
هذا هو المناخ الطبيعي للإبداع كما يحدثنا تاريخ الفكر الإنساني المدين بجل روائعه لذلك النزوع الفطري نحو الاختلاف والتباين، إنه المناخ الأجدر بتحريض العقل على إبداع الأفكار الخلاقة، وإطلاق العنان للرأي المجرد عن الأهواء، المتحرر من سطوة التسليم بالأفكار المسبقة والانبهار بالأسماء الكبيرة.