كيـف أصبحـت شيوعياً؟

 في عام 1954م أصدرت مجموعة معادية للشيوعيين بياناً مزوراً ممهوراً باسم الشيوعيين السودانيين، يدعو فيه إلى مهاجمة الدين الإسلامي وإسقاطه، وحاولت إثارة فتنة في الجوامع، ودعت إلى مهاجمة الشيوعيين عقب صلاة الجمعة، أخمدها الإمام عبد الرحمن المهدي في جامع ود نوباوي، ودعا إلى عدم إيقاظ الفتنة النائمة، وأشار إلى أنه يعرف الشيوعيين السودانيين عن كثب، وهذه ليست لغتهم وأسلوبهم.

وكتب عبد الخالق محجوب مقالاً نشر في الصحف يرد فيه على هذه المجموعة بعنوان (كيف أصبحت شيوعياً)، فإلى نص المقالة:

كيف أصبحت شيوعياً؟

إن هذه الحوادث لها خطورتها، وهي في رأيي تمسّني شخصياً، لأنني أنتهج السبيل الماركسي في ثقافتي وتصرفاتي وأومن بالنظرية العلمية الشيوعية، وكل معارفي وأصدقائي يعرفون منذ زمن بعيد هذه الاتجاهات والثقافة التي أحملها، وأنني أتحمل مسؤولية إزاء هؤلاء الأصدقاء والمعارف وبينهم من يحمل اتجاهات معادية لأفكاري وبينهم من حظي بثقافة إسلامية أو مسيحية، وبينهم الشخص العادي الذي يضطرب في الحياة دون فلسفة أو ثقافة.

إن انزعاج هؤلاء الإخوان يضع على عاتقي مسؤولية أدبية في توضيح رأيي وفق الثقافة التي أعتنقها، ثم إن المدرسة الثقافية الشيوعية من المدارس الفكرية التي تعيش في بلادنا منذ فترة طويلة.. إن اهتمامي الكبير بمصير هذه الثقافة التي أعتز بها وأكنّ لها كل احترام… يلقي عليّ أيضاً مسؤولية في توضيح موقفها إزاء الحوادث الأخيرة.

لكي أوضح الموقف وغوامضه أستميح القارئ عذراً إذا بسطت له جزءاً من تجربتي المتواضعة: كيف أصبحت شيوعياً؟

تجاربي

في نهاية الحرب العالمية، عندما دبّ الوعي الوطني في أرجاء بلادنا انتظمتُ كغيري من الطلبة المتحمسين في غمار هذه الحركة، يحدوني أمل هو المساهمة في تخليص بلادي من النير الاستعماري، تحدوني حالة الفقر والبؤس التي كان وما زال يحس بها جميع المواطنين المتطلعين إلى مستقبل مشرق مليء بالعزة والكرامة، وقد علقت الآمال حينذاك على زعماء حزب الأشقاء في تحقيق تلك الأهداف التي آمنت بها. وهكذا وبهذه الآمال العريضة ودّعت وفد السودان في آذار (مارس) من عام 1946.

ولكن هذه الآمال العراض والأماني الحلوة ابتدأت تتضاءل أمام ناظري في القاهرة، وبعيداً عن أعين السودانيين دب التراخي في بعض هؤلاء الزعماء واستسلموا للراحة الشخصية. وفي غمار هذه الحياة الجديدة تناسى هؤلاء الزعماء ما قالوه بأن (قضيتنا لا يحلها أي من الذين ودعونا في الخرطوم واستقبلونا في القاهرة).. تساءلت ضمن عدد من الشباب الحر، لماذا يتنكر الرجال لما قالوه بالأمس؟ ما هو السر في هذه التحولات التي طرأت على الزعماء ولا يدري الشعب كنهها.

نظرية سياسية

وبمجهودي المتواضع وحسب حدودي الفكرية اتضح لي أن هؤلاء الزعماء لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الاستعمار وأنهم ما إن دخلوا غمار مجتمع متقدم معقد كمصر حتى صرعتهم النظريات المتضاربة، فأصبحوا يتقلبون كما تشاء مصالحهم، عرفتُ أن الاستعمار له نظريته السياسية التي يحارب بها الشعوب الضعيفة وأن هذه النظرية نشأت على تطور الرأسمالية الأوربية خلال القرن الخامس عشر. وإذا كان لشعبنا المغلوب على أمره أن يتحرر فلابد أن يسير على هدى نظرية توحد صفوفه وتصرع الاستعمار ، على هدى نظرية تسلط أضوائها على كل زعيم أو متزعم ولا تترك له الفرصة لجني ثمار جهاد الشعب لنفسه، على هدى نظرية سياسية تخلص الشعب من الجهل والكسل الذهني الذي يتركه كقطع الشطرنج تحركه أيادي الزعماء أينما شاءت.

لقد هداني هذا الجهد المتواضع إلى النظرية الماركسية – تلك النظرية السياسية التي نشأت خلال تطور العلم والتي تقوم على أساس اعتبار السياسة والنضال من أجل الأهداف السياسية علماً يخضع للتحليل. ولأول مرة عرفتُ أن الاستعمار ليس شيئاً أبدياً، وإنما هو تطور اقتصادي للرأسمالية الأوربية، وأنه كبقية الأنظمة خاضع للتطور أي أنه سينتهي ويحل محله نظام جديد. وهكذا عرفت أن جميع الزعامات السياسية التي لم تهتد إلى هذا التحليل العلمي للاستعمار واكتفت بإثارة العواطف ضد (الأجانب) لم تصل إلى أهدافها ولم يجنِ الشعب المؤيد لها ما كان يصبو إليه، أسماء كثيرة تحضرني – سعد زغلول وغاندي ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم. واقتنعتُ بأن زعماءنا يسيرون في الطريق نفسه وأننا لن نجني من ورائهم أكثر مما جنت الشعوب الأخرى التي سارت وراء تلك الأسماء.

تناسق الماركسية

وكشخص وضعته ظروف الحياة لا كزارع أو صاحب أملاك – بل كمتعلم نال من بعض التعليم المدرسي، كان لابد لي كغيري أن أقوم بجهد لأنال شيئاً من الثقافة ينفعني في تطوير فكري وتوسيعه. ولم أكن أهدف إلى أي ثقافة ولكن الثقافة التي تعطي تفكيرًا غير مضطرب أو متناقض للظواهر الطبيعية والاجتماعية.. إن النظرية الماركسية تمتاز بالتناسق، ولأول مرة تضع قيماً عالية للأدب والتاريخ والفن والفلسفة مما كنا نعتقد أيام الدراسة إنها بطبيعتها لا يمكن أن تكون لها قيم أو تستعملها قواعد وإلا فقدت طبيعتها. إني كفرد يحاول تثقيف نفسه وجدت في النظرية الماركسية خير ثقافة وأنقى فكرة.

إن تجربتي البسيطة توضح أنني لم أتخذ الثقافة الماركسية لأنني كنت باحثاً في الأديان، ولكن لأنني كنت وما زلت أتمنى لبلادي التحرر من النفوذ الأجنبي – أتمنى وأسعى لاستقلال بلادي وإنهاء الظروف التي فرضت علينا منذ عام  1898 , أتمنى وأسعي لإسعاد مواطني حتى تصبح الحياة في السودان جديرة بأن تحيا – ولأنني أسعى لثقافة نقية غير مضطربة تمتع العقل وتقدم البشرية إلى الأمام في مدارج الحضارة والمدنية.

الشيوعية والإسلام

هل صحيح أن الفكرة السياسية الشيوعية في السودان تدعو لإسقاط الدين الإسلامي؟ كلا! إن هذا مجرد كذب سخيف. إن فكرتي التي أؤمن بها تدعو إلى توحيد صفوف السودانيين.. ضد عدو واحد هو الاستعمار الأجنبي وبهدف واحد هو استقلال السودان وقيام حكم يسعد الشعب ويحقق أمانيه، وإن القوى التي تقف حائلاً دون إسعاد وحرية السوداني المسلم أو المسيحي.. لا يمكن أن تكون الإسلام، لأننا لم نسمع أو نقرأ في التاريخ أن الجيش الذي غزا بلادنا عام 1898 هو القرآن أو السنّة، ولم نسمع أو نقرأ في بوم من الأيام أن المؤسسات الاحتكارية البريطانية التي تفقر شعبنا جاءت على أساس الدين الإسلامي أو المسيحي. إن الفكر الشيوعي ليس أمامه من عدو حقيقي في البلاد سوى الاستعمار الأجنبي ومن يلفّون حوله، فأين هذا الهدف من محاربة الدين الإسلامي؟

إن الفكرة الشيوعية تدعو في نهايتها إلى الاشتراكية حيث يمّحي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. أين هذا الهدف من محاربة الدين الإسلامي؟

إن الفكرة الشيوعية تدعو إلى إخضاع العلم والمعرفة لحاجيات البشرية، من بحوث علمية وطبية وأدبية، وتشذيب الإنسان من الخوف والحاجة، بإنهاء الظروف الاقتصادية والفكرية التي تنشر الخوف من المستقبل وتدفع الإنسان تحت ضغط الحاجة إلى درك لا يليق بالبشر من سرقة ودعارة واحتيال وكذب. أين هذا الهدف من محاربة الدين الإسلامي؟

بقي أن أقول للدوائر التي أصدرت هذا المنشور: إن الرجل الشريف يصارع الفكرة السياسية بالفكرة السياسية ويعارض فكرة معينة بالحجة والمنطق. إن محاولة تزييف أفكار أعدائكم – أو من تتوهمون أنهم أعداؤكم – بهذه الطريقة الصغيرة لا تليق، فوق أنها عيب فاضح. أما أساليب الدس فهي من شيم الصغار جداً حتى ولو كبرت أجسامهم وتوهموا في أنفسهم علو المقام.

* (مركز أبحاث الماركسية واليسار)

العدد 1140 - 22/01/2025