ثمة حبٌّ يختنق على أرصفة الحرب
(جميعُ الناس صالحون للحرب، إن لم يكن ليقتِلوا لكي يموتوا).
في زمنٍ يزرع فيه كبير السن عمراً نضراً في ذاكرة الأرض، ويعود بلا خافقٍ لجلسات تضج بالصمت وبالقهر. حربٌ تتقن محو الوهم وتحطيم الأقنعة وتجيد التقاط المدنية من الأرصفة، وتعرف كيف تكشف النقاب عن إنسان الغاب الأول، البطل، الذي لا يعتقد أبداً بموته، والبشري الذي عليه أن يرتقي فوق فكرة موت من يحبهم. الذي يفهم تماماً أن الأمل يُقتل في شوارع المدن،و فوق أشجار رصيفها تعدم الحضارة الإنسانية لأزمنة قادمة..
في الحرب حيث ينشطر قلب الجندي قبل مغادرته ثكنته، قبل أن ترديه نيران العدو، هذا الرجل الماضي نحو حتفه دون أن يمعن النظر بعينيَ محبوبةٍ يحاصرها الغياب، يسجنها في غرفةٍ مغلقة على صورته وقليلٍ من أمل العودة. المكان يعلمُ، إذ ينظر إليها بسكون، أنَّ لعاشقها ذاكرة شاخت بعد أول رصاصة أصابت صديقاً في معركة ما، ويدركُ أنه الآن، يجهلُ بجدارة أيهما أكثر سواداً، فوهة بندقيته أم لون عينيها.
الغيابُ وحده يحتل مساحات الأرض المحروقة لا يستطيع منحه العاشق الماضي نحو مجهوله، بعضاً من الزمن ليرتب فوضى حزنه، ويتسلق تلال الألم قادماً نحو محبوبة بعيدة، يحمل زهوراً بيدٍ لم تُبتر بعد!
الحبُّ في زمن الحرب موجةٌ تضاف إلى ألمِ المسافة والحصار والقتل. نزيفُ القهر، آلامُ الوطن وصراخ الثكالى، كيفَ لها أن تقتلع الحبَّ من رحم الموت..؟
خلف جدران المدينة الموجوعة، يختبئُ الغرباء، يفردون خرائط الأمكنة ويتقاسمون ذكرياتها، يقهقهون ضجيج رصاصهم، وينسلون للشرفات القديمة، هناك حيث يقتلعون ياسمين المساءات.
لا تزالُ النوافذُ المقابلةُ مظلمةً،فتاةٌ خلف الستائر تنتظرُ حبيباً، لا يزور بيته المهجور صباحاً، تضجُّ المسافة بينهما بمدافع (الهاون) وتحليق الطيران، يتشظى القلبُ مع كل خبر، قتيلاً يتناثر في جميعِ المعارك، يسافرُ مع سكة الحديد التي نقل قطارُها الجندَ: (لا محطاتٍ لها عربته. تهمسُ، والأفقُ خاوٍ إلا من الدخان:
كم من غبار الحربِ يسكنُ مقعداً لنا)! في الحقيقة ما تبقى منه بضعة أخشابٍ، أشعلها صبيةٌ في غرفهم الباردة، (ليس مهماً، ملامحنا تغيرت أيضاً، المدينةُ وأخي الصغير، يكبرون بسرعة أطفالُ الحرب).
في تلك الليلة كان القتال عنيفاً، لا يخشى الجندي وجهه مخضباً بالدم، بمعادلة (القاتل أو المقتول) لا يطفو سوى حب الوطن. تناثرت بتلاتُ العسكر فوقَ الأرض الحزينةِ، ينزفون ذكرياتهم وأحلامهم، يودعون فيها أملاً يزهر بهم دونهم، يرحلون ويورثون الأمكنة مزيداً من اليتم.
ما تكونُ رؤى من يغادرُ الذين يموتُ من أجلهم؟ ما هي كلمته التي لم يقلها لقلوبهم؟ ما وصيته الأخيرة لامرأته، لأمه، لطفلٍ ينتظره..؟
ذاكَ الموتُ الأرجواني المتجول حول الأجساد المتساقطة، ماذا تركَ للحب المنتظرِ خلف الأبواب؟ لضحكاتٍ تحتَ أقواس الحارات، لمواعيد مؤجلة جوار القلعة القديمة..؟
عند الغروب، مصاباً عاد، يعود الجرحى من الحرب أحياناً، هل عليها أن تشكر رصاصةً فاشلةً منحتهما موعداً؟ ترقبه بصمتٍ،و الغرفة تكتظ بالأصحابِ وبكثير الحنين، تقتربُ عجوز قبالة سريره: (نفرح فيكم يا بني) ابتسما والتفتا لحسراتٍ مخفيةٍ في حقيبةٍ له خلف البوابة، هناك، حيث الحرب تنتظرهُ خارجاً.