في حضرة الغياب
كثيراً ما تذهب بنا العناوين إلى حقائق ما تعيشه أعماقنا من هموم وذكريات، تصعد بنا إلى متاهات الغياب النائي البعيد لننسى واقع ما يحيط بنا، وما حولنا، وما تجيء به الأيام من حزن ومكابدات، تتلاطم فينا كالأمواج العاتية، حتى لتعجز البسمة العابرة على جفوة العين من منح تلك الجفوة بعضاً من شعاع فرح عابر، لا هو عابر، ولا جفوة العين ذاهبة في سكة مغايرة لهموم الحياة، ومكابداتها؟! ولكثرة سطوة الحزن علينا، فإننا جعلنا كل شيء حولنا، طوافاً علينا كما نراه بعين الشك مريراً، وقاتماً، ومتشحاً بشال العتمة والوحشة والعزلة! نصبو للغياب هرباً من جنون الواقع والوقائع التي لا تحمل سطوة عبثها الجبال! فكيف بروح شفافة في كيان إنساني رهيف وشفاف يمكن لها أن تتحمل تلك السطوة الآثمة!؟ ونعشق الحزن لأن لباس الأمة حزنها، وقد أتت إلى الدنيا غريبة، وتذهب عنها غريبة، فالغربة جماعية للملايين المبثوثة بين المنافي والغياب، كلما نحَّيْنا عنا خيمة، تقاذفتنا مع الريح آلاف الخيام، وكلما ألقينا عنا غربة، وجدنا نفوسنا تذهب في جحيم الاغتراب، وكلما ضاقت عاصمة بما آل إليه رحالنا، تكاتفت عواصم المنافي حولنا لتطرحنا أرقاماً في شواعها، وطيوفاً بلا أسماء، ولاجئين بلا أوطان، وكيانات عابرة بلا هوية، ولا انتماء، ولا تاريخ، ولا أصول، ولا جذور، لأننا طرحنا خلفنا تلك المسميات الخالدة، أمام نكهة الشمال البعيد، ولو كان الوصول إليه عبر قوارب الموت اليومية أهون بآلاف المرات من التفكير للحظة واحدة بمستحيل ما جرى ويجري في أعالي الألفية الثالثة، ونحن نهوي إلى قاع العابر البعيد، ونصرخ بمرارة: (يا مَهْوَن نكبة 48 على عصر الجنون المهين).
يا محلا زمن الخمسينيات والستينيات… هدير الأطفال من أجل فلسطين، ودوي طلبة المدارس من أجل فلسطين، وطلبة الجامعات من أجل فلسطين، هنا أسبوع للجزائر، وهناك الملايين من أجل مصر وهبتها ضد الغزاة، وسورية تعيش عرس الوحدة، وفلسطين دائماً هي القضية المركزية للطوفان الهادر من المحيط للخليج، وبغتة، نتلفت حولنا فلا نجد أحداً سوانا في خضم معركة الحياة، والتي كنا ننشد فيها:
لم نربح الجولة الأولى، فما خسرت
في المشتهى جولاتنا الأُخر!
فإذا بجولاتنا الأُخر كوابيس على أنين الوسائد تشيح بوجهها عنا، وتلعننا! أين أنتم من الطوفان الوطني العارم زمن الخمسينيات والستينيات؟!
أين طوفان العروبة والهدير القومي الجارف في زمن صحوة الأمة؟ وهبة الملايين العارمة بين بردى المنتشي بالهدير، وشوارع دمشق ودروب الجامعة لؤلؤ العيون يتوهج بالدمع ووله الارتباك الجميل، وفيروز تصدح على امتداد شوارع الحور والكباد والياسمين:
… الغضب الساطع آت،
و… أجراس العودة فلتقرع،
و… (بيي راح مع العسكر،
و… عائدون… يصدح بها صوت فلسطين من دمشق،
و!!؟ بغتة، والتفت، (فلم أجد حولي سوايا)،
قالها كمال ناصر ومضى، ولم تزل حوالي أربعين سنة، وأكثر ترن في الآذان، كأنها قيلت بالأمس أو الساعة؟!
ويظل الأمل باقياً ما دام التراب يعبق بدم الحور والكباد، والياسمين، والزعتر والدفلى والزيزفون! وعصر الجنون يعصف، ولا يحمل في طياته غير غبار الخذلان والهوان، إلى غير رجعة، ومعه هشاشة الأشباه الذين لا علاقة لهم لبالتراب أو بالأوطان، أو بشرف الدفاع عن الأرض والعرض، ولكم تعلو في مثل هكذا حالة هامات طير أبابيل الوطن الخالدين: قبل: يوسف العظمة، وسعيد العاص، وعز الدين القسام، والقاوقجي، والشيخ صالح العلي، وأحمد مريود، وسلطان باشا الأطرش، وإبراهيم هنانو.
وبعدُ: آيات الأخرس، وفارس عودة، ووفاء إدريس، ومحمد الدرة، وإيمان حجو.
وأسماء بعدد الحصى المقاوم، لا يبلى، ولا ينتهي، واستعادة الأسماء للتذكير بأن الأرض والعرض لهما حماة الديار الخالدون، نستذكرهم والقلب ينفطر من الأسى على ما نحن عليه الآن؟! هي كبوة وتمضي، وجفوة وتزول، ولكن الدم الذي بدل سماح المجد والمقاومة بساح اللامعقول والخرافة، ماذا سينطق فيه التراب لو نطق؟! وكيف يعبّر عنه الوطن للأجيال؟! وأي ورد وريحان وزعتر سينتج دم أريق في سبيل لا شيء؟! وكيف ستنسى دمعة العين شاهدات لا تزينها تيجان العزة، وقبوراً تجهل ساكنيها، ودموعاً أريقت على وجع الحدث، وليس على قيامة الراحلين للمجد، والسؤدد، والخلود؟! وما بين التذكار والفاجعة يظل القصيد يردد:
بقوة الإيمان واليقين يحتمية النصر:
… ولتسألي ذاك الثرى الأموي عنا
نحن لا نرضى من الأمجاد غير ذراها!
تلك الملايين التي تلتف حولك كالسوار.
فكيف يمكن أن تضل خطاها؟
وهي التي تمضي بموج كالجبال
وكل هذا في سبيل حماها!