ماذا يريد أطفال سورية من بابا نويل..؟

تفقد الحياة جمالياتها وروعتها، وحتى إنسانيتها، حين يفتقد الأطفال مقومات البراءة والنمو الطبيعي في أجواء مفعمة بالدفء والأمان والمحبة والسلام.

هذا ما يفتقده جميع أطفال سورية في الداخل والخارج.. في المناطق الآمنة والساخنة على السواء، إذ إنهم -بلا استثناء، من الرضيع إلى اليافع- لا يجدون ما تتطلبه حياتهم وشخصياتهم، فالحياة والواقع غير طبيعي للأسف، ينوء البالغون عن احتماله، فكيف لأغصان غضّة وندية أن تتحمل رياحاً هوجاء عصفت بجذور الأمان والسلام والاستقرار..؟

إن ما عايشه أطفالنا على مدى أربع سنوات لم يترك للطفولة أيّاً من سماتها ولا ملامحها التي اندثرت تحت وقع سنابك الحرب والتهجير والنزوح والجوع والبرد والتشرد في مدنٍ وشوارع غصّت بهم حتى تخالهم عند رؤيتهم كل صباح كهولاً رسم الزمن على وجوههم أخاديد الشقاء والبؤس والخذلان. والوضع أشدُّ قسوةً ومرارةً في بلادٍ غريبة لم ترَ فيهم سوى تجارة رابحة بكل المقاييس والأبعاد سواء للإناث أو الذكور عبر تجارة الرقيق بمسمياته المستحدثة المواربة، أو عبر تجارة الأعضاء البشرية القذرة، وكذا عبر المتاجرة بقوت يومهم من خلال تشغيلهم بأعمال لا تليق بالكبار، حتى باتت الإعلانات عن تشغيل الصغار السوريين تتصدّر الواجهات في دول اللجوء دون شفقة أو خجل

هذا الواقع المأساوي والخطير للطفولة السورية، لا شكَّ في أنه سيجعل من المستقبل لوحة قاتمة بامتياز، لأن هذه الطفولة هي التي ستبني المستقبل حسب حتمية الزمن والحياة. إن مشاهد القتل أو الموت لدى المقربين من الطفل، أو عبر وسائل الإعلام، تُفجّر في داخله الألم المقيم وحبّ الانتقام من جهة، وتتركه أسير الخوف والرعب من الآخرين البالغين مهما كانوا مسالمين من جهة ثانية. إضافة إلى مسألة النزوح أو التهجير والتشرد عن البيت والحي والمدرسة ورفاقه، تجعله يعيش غربة وعزلة عن محيطه الجديد مما يدفعه إلى الانزواء وعدم الرغبة في ممارسة الحياة بكل أبعادها مع أُناس جُدد، وربما ينظر إلى والديه على أنهما غير قادرين على حمايته، وبالتالي ستنهار ولا شكّ بعض منظومات القيم الأخلاقية والتربوية في داخله، ويحل محلها مشاعر الحقد وعدم احترام كل من له صلة بالحدث وبضمنهم أبواه. وحين يواجه الطفل العنف وبعض السلوكيات السيئة من الآخرين، كالاعتداء الجسدي أو التحرّش الجنسي، فإنه سيُبادر إلى الدفاع عن نفسه بإمكانات عضلية هشّة لا يمكنها حمايته، حينئذ سينظر إلى ذاته على أنه ضعيف وغير قادر على فعل أيّ شيء، في الوقت الذي ينظر فيه إلى المعتدي نظرة احتقار وخوف تبعدانه عن الاختلاط بالآخرين، حتى أقربهم إليه، وهذا بالتالي سيجعله مستقبلاً إنساناً خاملاً وعديم الثقة بذاته وبالآخرين، مما يؤثّر على فاعليته الذاتية والعامة على المدى البعيد. وعندما يتخلى الطفل عن مدرسته مرغماً أو حرّاً من أجل البحث عن قوت أسرته التي باتت في مهب رياح الفقر والعوز والجوع، فإنه ربما يتبنى مبكراً مفاهيم مناهضة للعلم الذي يراه معيقاً في طريق الحصول على المال الذي يراه اليوم وغداً أهمُّ بكثير من العلم بكل شهاداته ومكانته، وبهذا سيكون المجتمع أمام عهد ونسب عالية من الأمية تفوق النسب السابقة التي كافح طويلاً في محاولة القضاء عليها بشتى الطرق من جهة، ومن جهة أخرى سيكون لدى المجتمع ذاته أفراد يقدّسون المال ويسعون إليه بمختلف السبل المشروعة أو اللاّ مشروعة.

أمّا حين يُحرم الأطفال من الدراسة، ويتمُّ تجنيدهم في الأعمال العسكرية والقتالية، فإنهم ولا شكّ سيغوصون عميقاً في مستنقع العنف والقتل والإجرام، بحكم تشويه منظومتهم الإنسانية والأخلاقية القائمة على التعاطف والمحبة والسلم، وبالتالي سنكون أمام جيلٍ متمرّد عنيف لا لغة لديه سوى القتل وإقصاء الآخر المخالف، لمعتقدات وأوهام تمّ بثّها بشكل بشع في أذهانهم النقيّة والبريئة.

أمّا بشأن ما تتعرّض له الطفلات من تحرّش وزواج مبكّر يقضي على براءتها ويحرمها مرحلة عمرية هامة وأساسية في حياتها، حين تنتقل بشكل مفاجئ من الطفولة إلى الزوجية بأعبائها والتزاماتها القاسية على جسدها الغض، وتفكيرها البسيط البريء، فقط لأنها أنثى، مما يجعلها مستقبلاً تعيش حالة تناقض في رؤيتها وتقديرها لذاتها كأنثى ضعيفة مهمتها فقط الجنس والإنجاب، بينما تجد في الذكر سندها وحمايتها حسب التفكير القبلي السائد، ما يدفعها إمّا إلى الاستهتار بالقيم الأخلاقية، وبالتالي الانحدار والسير في دروب شائكة ووعرة تؤذي إنسانيتها قبل أنوثتها، وإمّا اعتماد منظومة تربوية لأبنائها قائمة على التمييز والعنف ضدّ الفتاة، وبالتالي سنبقى لأجيال وأجيال في دوامة العنف والتمييز وإقصاء المرأة.

هذا غيضٌ من فيض ما يُعانيه أطفال سورية منذ ما يُقارب الأربع سنوات، وما ينتظر مستقبلها حتى وإن توقفت الحرب الآن، لأن ما تغلغل في النفوس، وما عشّش في المنظومات القيمية والأخلاقية وحتى الدينية على مدى سنوات الحرب، لا يمكن تجاوزه بسهولة أو على المدى المنظور، مما يتطلب من الجميع أفراداً ومؤسسات اجتماعية ودينية، ومنظمات مدنية وحكومية، وحتى دولية الابتعاد ما أمكن عن المناظرات الفارغة من أيّة قيمة عملية وواقعية، وتلك الشعارات الرنانة البرّاقة الخاوية من أيّ فعل أو أثر جديّ حتى اليوم، وذلك بهدف الإسراع في تأهيل الكوادر العلمية والاجتماعية بكل اختصاصاتها المناسبة للبدء فوراً بالعمل الجديّ والحقيقي والفعّال لمعالجة كل ما تشبّث في أذهان أطفال سورية ومنظومة تفكيرهم ورؤاهم، فقد انتظروا وينتظر الباقون منهم قدوم بابا نويل ليحمل لهم الفرح والأمان والسلام والطمأنينة الداخلية، كي يعودوا إلى مرابع طفولتهم التي استباحتها الحرب، في ظل تآمر الجميع عليهم داخلياً وخارجياً، وبضمن ذلك المجتمع الدولي بكل هيئاته ومؤسساته المعنية بشأن الطفولة، واتفاقيات وعهود وإعلانات دولية بقيت حتى اليوم حبراً على ورق فيما يخص أطفال سورية، رغم تصدّر حقوق الطفل جوائز نوبل هذا العام، كما ذكرت الزميلة رهادة عبدوش في (النور) العدد (646)، فهل من مغيث أو مستجيب..؟

العدد 1140 - 22/01/2025