التنمية والعقائد (1مـن2)

كان هاجس التنمية ومازال، الشاغل الذي تعتبره الشعوب وسلطاتها الأول والأساسي، خاصة بعد أن ظهر التمايز الكبير بين الأمم والبلدان، فبعضها حقق وجوداً فاعلاً بفعل تنمية حقيقية، وبعضها الآخر لم يهتد إلى طريقها ولم يملك الإمكان لوضع جهوده على خطها الفاعل، وكلما تقدمت الأيام واتسع الشرخ وزادت الفروق بين الأمم، وتفاقمت الضغوط على الضعفاء، وبدا قصور إمكاناتها ومناهجها، دفعها ذلك إلى مزيد من التشتت والضياع، وإلى مزيد من البحث عن مخارج لمآزقها، حيث تكون صعوبة الخيارات قد زادت.

يقال إن التجار المفلسين يبحثون في دفاترهم القديمة عن بقايا ما يعيد لهم الأمل، وكذلك الشعوب الضعيفة، لا تجد في واقعها من عناصر القوة ما توظفه في الانطلاق إلى الأمام، فتعود إلى دفاترها القديمة، إلى تراثها وتاريخها، إلى ما به حققت وجوداً فاعلاً إن كان هذا قد حصل لها يوماً، وهنا قد تغفل عن أن العناصر التي تحقق بها الشعوب تقدمها في مرحلة ما، قد لا تكون هي الصالحة ولا الفاعلة لذلك في مراحل تالية، وذلك لاختلاف العناصر التي قد تحتاجها في المراحل اللاحقة، ولأن من المحتمل أن تكون العناصر السابقة قد فقدت قوتها الدافعة، أو لحقها ما جعلها لا تصلح كدوافع وميكالزمات فاعلة.

التراث والماضي قد يقعد بالأمم إذا أخطأت توظيفه واستغلال طاقته المحركة، وهذا أمر اكتشفته شعوب أحسنت تجاوز إعاقة ماضيها، ولقد ذكرت مراراً أن شعوب أوربا لم تترك ماضيها يأسر حاضرها، فماضيها الذي كانت العقائد الدينية حاكمة عليه، لم تسمح له أن يسد عليها الطريق باتجاه نهضة لا تتنكر ولا تنفي العقيدة بمقدار ما تتجاوز خطر تعويقها.

لقد أخذت أوربا من تراث اليونان والرومان، ومن تواصلها مع حضارات الشعوب، ما يمكن أن توظفه في نهضتها، ولا يغفل دور الحضارة العربية الإسلامية في ذلك. لكن دون أن تكون أسيرة لأي من هذه الحضارات أو التراثات والمصادر، ثم إنها لم تتنكر لتراثها العقدي، وهو لا يزال ممتداً وحاضراً لديها، دون أن يكون قادراً على توجيه حراكها القائم على المصالح، كما كان.

كانت حركة الإصلاح فاصلة إلى حد كبير في حياة أوربا وشعوبها، ولكن ليس في فصل الأوربيين عن عقيدتهم الدينية، إنما في الجرأة على مساءلة ما راكمته العقائد من معوقات منعت شعوب أوربا من استخدام عقولهم ومقدراتهم، ولم يأت الإصلاح والعقائد البروتستانتية بالبرجوازية، بمقدار ما حرر عقول الأوربيين من الارتهان للماضي وانشغالهم بما يمكنهم فعله للتحرر من كل ما يعيق حركتهم، أو يشكل سلطة على عقولهم وسلوكهم، مثلما تحرروا من مسائل كانوا يرونها في مواقع القداسة، مثل صكوك الغفران، أو قراءة الكتاب المقدس بغير اللاتينية من اللغات.

لقد أسقط الإصلاح جدار الخوف، وحرر الإرادة، لكن ليس بالأوامر، بل بإيجاد مناخ للاقتداء بلوثر وكالفن وغيرهم من قادة الإصلاح، إذ يبدو أنهم أعطوا لكل من لديه الإرادة، الدافع ليخوض معركة تحرره مما يأسر عقله وإرادته، وهكذا بدأ الأوربيون يحررون أنفسهم من الارتهانات للإقطاع والكنيسة، وبدأت حركة التجارة والورش الصناعية، وبدأ التحرر من الأمية صانعة الجهل، لقد بدأت كل فاعليات الحياة واتجاهاتها وعناصرها بالحركة والنهوض، ومع أنها لم تكن حركتها دون هموم وشقاء ودماء، ومع سيول الدماء التي دفعها الأوربيون برهاناً على عدم بقائهم في حالة السكون، والتي تجلت في الحروب الدينية وحروب المصالح، بدت أوربا بكل فئاتها الاجتماعية، بكل أبنائها الفاعلين المنتجين، متجهة إلى المستقبل والحضارة التي نراها اليوم تعم العالم، ولم يكن الدور الكبير للأدباء والمفكرين والعلماء وغيرهم من أعلام أوربا الكبار، إلا التعبير المباشر، أو ترجمان الجهود العملية التي كان الأوربيون المنتجون يبذلونها، ثم كان لها ما يوازيها على مستوى الفكر والثقافة، وليسوا هم النهضة بل هم بمثابة البيانات التي تعلن من خلالها النهضة عن حركة الشعوب وإلى أين وصلت.

هنا يجب تقدير الحالة السكونية التي كانت العقيدة الدينية قد أشاعتها في أوربا، إذ الشعب مستسلم لحالة التخلف تحت هيمنة الكنيسة، وغير قادر على التفكير في حالة أو وضع آخر، ولهذا أثر شديد السلبية على الشعوب التي لا تستطيع استثمار طاقاتها، أو لا تتعرف إلى إمكاناتها في ظل هذا الانغلاق، لكن العقيدة ذاتها عندما يتم التحكم بتوجيه نظرة الناس إليها من زاوية أخرى تسهم في صنع محركات للتفكير، والبحث في مواقع وزوايا لم يكن العقل يرتادها، ولا إرادة الناس وفضولهم يتوجه إليها، والعملية بمجملها إسقاط جُدُر الوهم والخوف من السماء التي لم تكن يوماً ضد إرادة البشر.

المثال الأوربي يؤكد أن الدين يجب ألا يكون متهماً، كما لا يمكن وصفه بالبراءة من أوضاع وصلت إليها الشعوب. المتهم هو الإنسان في طريقة تعاطيه مع الدين، ومقدار ما أفسح له من المجال ليشكل عائقاً للتطور. قد يكون الدين مثبطاً للإرادة وعائقاً لنشاط العقل، وقد لا يكون، فقبل الإصلاح الديني في أوربا كانت الحياة بكامل عناصرها تحت سطوة الكنيسة (لا الدين) التي تحدد مسار كل شيء في الحياة، فلما حدّ الإصلاح من قدرات الكنيسة ونشاطها، أو أثبت أن الدين قد يكون شيئاً آخر غير ما تمارسه الكنيسة، تغيرت الأمور ونهضت أوربا، أو ساهم ذلك في نهضتها المبشرة، علماً أن المطلعين يصفون حركة الإصلاح بأنها ذات توجه أكثر رجعية مما كان سائداً من الزاوية الفكرية، لكنها صنعت مناخاً آخر أمكن استغلاله، إذاً الدين ليس عائقاً للتطور إلا بمقدار التعاطي وكيفية هذا التعاطي، مثلما أنه ليس حافزاً بالمعنى ذاته.

إذا كان قد أمكن أن تحصل النهضة في أوربا مع عدم إفساح المجال للدين أن يشكل عائقاً لها، أو بالكباش مع الكنيسة وسلطتها، فهل يعني هذا، باعتبار أن أوربا مسيحية، أن الدين المسيحي فاعل في هذه النهضة، أو معوق لها؟ وهل يعني ذلك أن الأديان الأخرى للأمم الأخرى يمكن أن تشكل إطاراً نهضوياً فاعلاً في إخراجها من إعاقتها أو معوقاً لنهوضها؟ هذا ما يهم أن نعرف الإجابة عليه.

الذين ينطلقون من الإسلام إطاراً للتفكير لا يترددون في اعتبار الدين ضرورة لا بد منها، تقوم عليه نهضة الأمة، باعتبار أن حاضر هذه الأمة ومستقبلها لا يصلح إلا بما صلح به ماضيها، وفي ماضي الأمة كان الدين عاملاً محركاً وحافزاً دفعها إلى النشاط وصنع حضارة كان لها شـأن كبير، ويذهب هؤلاء إلى الاستعانة بآراء تتحدث عما حصل للشعوب الأخرى ذات الأديان المعروفة.

هؤلاء يذهبون للاستعانة برأي فيبر الذي رأى أن الإصلاح البروتستانتي هو سبب النهضة في أوربا، دون التفريق بين كون النهضة كانت نهضة الدين أو العقيدة، وأنه بعناصره العقدية الإيمانية الغيبية قد صنع ذلك، أو أن جرأة الإصلاح قد أخرجت العقل الأوربي من القمقم الذي كان قد سجن به، وهذا القمقم كان صناعة دينية إيمانية، وبتحرره اندفعت المجتمعات الأوربية إلى الأمام، والحقيقة أن القمقم لم يكن سوى ترسيمات الكنيسة التي راكمت هذه الستاتيكا.

المثال الأوربي يشير إلى بداية تحرير العقل بفعل مناخ صنعه الإصلاح. لكن أصحاب التوجه الإسلامي لم يقفوا عند المثال الأوربي، ومع أن النهضة العربية لم تنجز مشروعها الموعود، فهناك من تحدث عن نهضة ثانية كما فعل ناصيف نصار الذي يدل عنوان كتاب له على ذلك (التفكير والهجرة من التراث إلى النهضة العربية الثانية) لكن صوتاً إسلامياً هو الدكتور برهان زريق يتحدث عن نهضة عربية (ثالثة) في كتابه (المشروع الحضاري العربي الإسلامي) يجعل الإسلام الفاعل الأساسي في مشروع النهضة والحضارة ولا يكتفي بالمثال الأوربي، ولا بإعاقة النهضة السابقة في بلادنا، لتحفيز وتبرير رأيه، بل يذهب إلى اعتبار أن شعوب جنوب شرق أسيا لم تبدأ نهضتها ولم تصنعها إلا بفعل الدين في تلك البلاد، سواء كان الكونفوشيوسية في كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة وماليزيا، كما ينقل عن سليمان الديراني، (غافلاً عن أن في ماليزيا أغلبية إسلامية) وهو من حيث يقصد تدعيم دور الدين الإسلامي في إحداث نهضة، كأنه يقول إن الإسلام لم ينجح في ذلك كما نجحت أديان أخرى لدى شعوب أخرى، وهنا نتساءل في دعوته إلى اعتماد الدين الإسلامي في إحداث نهضة ثالثة، وهو لم يغب عن الأولى والثانية غير الناجحتين؟

العدد 1140 - 22/01/2025