الانحطاط الحتمي للرأسمالية

 إن الرأسمالية بطبيعتها لديها من الميول الموضوعية ما يجعلها تنحط أكثر فأكثر ويوماً وراء يوم، ليس لأية اعتبارات عرضية عابرة، كما يدّعي بعض المدافعين (المحترمين) عنها، من المخلصين المؤمنين حقاً بقيم التنوير التي رفعتها البرجوازية يوم صعودها، بل لاعتبارات تكوينية جوهرية مرتبطة بجوهر النظام وصميم ديناميات عمله، فهي نظام:

1- يعظّم الإفقار ولا يعيش ويزدهر سوى بوجوده.

2- يحابي الملكية ويسيطر عليه التوزيع الشخصي لا الاقتصادي.

3- يفتقد لكفاءة تخصيص الموارد، نتاج لكل ما سبق.

4- يفتقد للعقلانية الاجتماعية.

5- يعادي الحرية والمساواة والديمقراطية.

لا عجب أن البرجوازية اليوم قد ألقت عنها برقع الحياء، وتخلت عن القيم التي رفعتها يوماً، وبدأت تجاهر بذلك صراحةً بلسان منظّري اليمين المتطرف والليبرالية الجديدة، فالحرية كاذبة والمجتمع أسطورة والتقدم وهم والديمقراطية ضارة والحكم يجب أن يكون للقلة (1)، ولا حاجة بالطبع إلى ذكر العدالة عموماً والاجتماعية منها خصوصاً إلا على سبيل النقض والتهجم!!

كما أن كل ما يبشر به المستقبليون والاستراتيجيون والاقتصاديون والساسة وغيرهم يتمحور فقط حول التوقعات الكئيبة لعالم تحكمه نخبة ثرية ضئيلة جداً وسط بحار من الفقر، فحياة القرن العشرين الرخية نسبياً التي أُتيحت لأول مرة للجماهير العادية الواسعة ستكون على قول أحدهم (حدث عابر في التاريخ الاقتصادي)، وستنتهي للأبد جميع أحلام آدم سميث وجون ستيوارت ميل برخاء ورفاهية للمواطن العادي.

فالرأسمالية تنتج الفقر بطبيعتها ولأنها تحتاج إليه، فالأرباح لن تستمر دون إفقار، والرأسماليون لن يربحوا دون فقراء يقبلون مُجبرين بأقل الأجور، كما أن الإفقار هو خصيصة تكوينية في الرأسمالية تنشأ عن الانحياز الذي تخلقه الملكية الخاصة في عمليات وعلاقات الاستهلاك والإنتاج والتوزيع والتبادل كافة.

فالرأسمالية بطبيعتها تحابي الملكية، إذ أن مصلحة النظام هي دائماً مصلحة المُلاك والمستثمرين، حتى وإن حدثت بينهما تناقضات جزئية ووقتية، لكن مصلحتهم هم وحدهم هي دائماً مصلحة النظام، لأن النمو هو نمو القاعدة الإنتاجية التي يملكونها، ولأن التضخم دائماً يلتهم النقود لصالح الأصول، فالملكية الخاصة لقوى الإنتاج تخلق انحيازاً طبيعياً في النظام للفئات المالكة، ليس فقط بالسلطة السياسية، بل بآليات التوزيع التي تحيل ما يبدو شكلياً توزيعاً اقتصادياً إلى مجرد توزيع شخصي يستند لأساس قانوني هو صك الملكية والوراثة.

والرأسمالية تفتقد لكفاءة التخصيص، فتوزيع الدخل المختل يخلق هيكل طلب مختل وهيكل سياسات عامة مختل، ينتج الكماليات على حساب الأساسيات، فيستثمر مليار دولار في أبحاث الفياغرا بدلاً من استثمارها في أبحاث لعلاج الأمراض الفتّاكة، وينتج مئات الأنواع والموديلات من السيارات الفاخرة ولا ينتج غذاءً كافياً، وينفق آلاف المليارات على السلاح بدلاً من إنفاقها على التنمية والتعليم.

فنحن لا نتجنى على الرأسمالية إذا ما اتهمناها باللاعقلانية الاجتماعية، فالرأسمالية تمتلك فقط العقلانية الأداتية، أي عقلانية أداء الأشياء، لكنها لا تمتلك عقلانية شاملة تتساءل عما وراء الأفعال والأشياء نفسها، عن عقلانية وجودها، لا غرابة ألا تحقق الرأسمالية أولياً سوى الكفاءة الداخلية، أي كفاءة الإنتاج، فيما تهدر كفائتي التخصيص والتوزيع، ونقول أولياً فقط لأن للكفائتين المذكورتين آثاراً عكسية على كفاءة الإنتاج نفسها. وهذه اللاعقلانية الاجتماعية تدفع النظام للاستبداد بالضرورة لكونه غير مُقنع للأغلبية التي ترى أوجه انحرافاته غير المنطقية، فضلاً عن ظلمه، وهى تحتج عليه بأساليب شتى، منها الطبيعي والصحيح، كالنضال السياسي والاقتصادي والثقافي والتنظيم الموازي والمُضضاد على المستويات كافة، ومنها المنحرف والشاذ، كالنزاعات الطائفية والنزعات الفاشية وممارسات الفساد بجميع أشكالها.. إلخ.

ويدعم الإفقار وانعدام المساواة، فضلاً عن الفساد المؤسسي (2) الذي تنتجه الرأسمالية كما تنتج الفطر، تعاظم التفاوت في المراكز الاقتصادية والسياسية، وهو ما يؤدي لمزيد من تعميق الاستبداد والفساد، فالرأسمالية بطبيعتها تعادي الديمقراطية الحقيقية التي تعبر من خلالها الشعوب عن نفسها وعن مصالحها، والاتجاه الموضوعي في العالم كله اليوم هو تدهور تلك الديمقراطيات الزائفة، ما لم تأخذ الجماهير الكادحة بزمام المبادرة وتحدث تحولات ثورية حقيقية في كل أشكال الممارسات السياسية والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

مركز أبحاث الماركسية واليسار

*******

(1) نموذج معتمد وذو شأن، راجع أطروحات عالم المستقبليات الأمريكي ألفن توفلر مؤلف (حضارة الموجة الثالثة)، و(تحول السلطة)، و(صدمة المستقبل).

(2) وهو الفساد المتمركز ضمن ممارسات المؤسسات الكبرى بشكل لا ينفصل عن طبيعة عملها، ونماذجه الأشهر تتجلي في جميعع أشكال رأسمالية المحاسيب وفي ممارسات الشركات دولية النشاط والمؤسسات العاملة بالبورصات العالمية والمحلية.

العدد 1140 - 22/01/2025