لماذا كان ماركس محقاً؟! (34)

 كتب ماركس في (العقيدة الألمانية) أن (إنتاج الأفكار والتصوارت والوعي، قبل كل شيء آخر، متضافر مباشرة مع الفعل المادّي والتعامل المادّي للإنسان، لغة الحياة الفعليّة). ولو جعلت الطبيعةُ (ما لذَّ وطاب) يسقطُ بسهولة في أفواهنا الملهوفة بالشكر، ولو كان علينا أن نأكل مرّة واحدة في حياتنا، (الويل لهذه الفكرة!) لما احتجنا إلى كثير من التفكير. وبدلاً من ذلك، كان بإمكاننا أن نستريح وأن نستمتع بالنعم. لكن الطبيعة للأسف بخيلة جداً، وهكذا يبقى جسم الإنسان الذي ابتُلي بالاحتياجات التي يجب إشباعها باستمرار.

هي إذاً احتياجاتُنا الجسدية التي تحدِّد قبل كل شيء تفكيرنا. وبهذا الخصوص، لا يمسكُ تفكيرُنا إطلاقاً كتابه بيمينه، على الرغم من أن جزءاً كبيراً من تفكيرنا يعتقد ذلك. ويقول ماركس: تستقلُّ أفكارُنا في مرحلة لاحقة من التطور الإنساني عن هذه الاحتياجات، وعندئذٍ نتكلم عن الحضارة، حين نبدأ بتقدير الأفكار بحدِّ ذاتها، ولا بسبب قدرتها على البقاء. يقول برتولد بريخت: يمكن للتفكير أن يكون متعة حسّية. ومع ذلك، يصح القول بأن التفكير، مهما كان ساميا، لا يستطيع إنكار أن أصوله البسيطة موجودة في احتياجاتنا الحيويّة (البيولوجيّة). وكما علّمنا نيتشة فإن تفكيرنا مرتبط بمدى سلطتنا على الطبيعة. وأن أساس جميع نشاطاتنا الفكرية المجرَّدة يعود إلى رغبتنا الجامحة في السيطرة على محيطنا، وهي قضية حياة أو موت.

إذا نظرنا إلى تفكير ماركس من هذه الزاوية، نجد أنه يتمتّع بسمات احتفالية كرنفالية، ويذكّرنا بأفكار نيتشة – وفرويد. والشيء الوضيع يختبئ دائماً في ثنايا الشيء السامي. لنقرأ ما يقوله في هذا الشأن الناقد الأدبي وليم إمبسون: تجد حتى الرغباتُ الأكثر تعقيداً جذورها في أبسط الرغبات، ولو كان الأمر غير ذلك، لكانت رغباتٍ خاطئة. إن أساس مفاهيمنا المتسامية يكمن في السلطة والعوز والطلب والرغبة والحاجة والعدوانيّة. هذا هو الجانب الخفي المظلم لما نسمّيه حضارة. ونحن ندين لتيودور أدورنو بالتعبير الذي لا يُنسى عن دبيب الأهوال تحت صخرة الحضارة. وفي هذا المجال يقول فالتر بنيامين: (صراع الطبقات هو صراع على المواد الخام والأشياء المادّية التي لا وجود لأي شيء رقيق أو روحي من دونها. وهنا نشير إلى أن بنيامين لا ينكر إطلاقاً قيمة الأشياء الرقيقة والروحانية، كما هو الأمر عند ماركس. لكنه يسعى إلى رؤيتها في إطارها التاريخي. وكما هو حال العديد من الفلاسفة الاحتفاليين الكرنفاليين، كان ماركس مفكراً دقيق المعاني وذا ريبةٍ دفينة إزاء الأفكار – المتعالية. وعلى العكس من ذلك، يعترفُ السياسيُّ على الملأ بالمبادئ المثالية ويتفوّه في محيطه الشخصي بآراء مادّية ساخرة.

رأينا في مجال آخر أن (الوجود الاجتماعي) يحدِّد الوعي: تنمو المعارفُ التي تبقى في الذهن عادة مما نفعله بشكل ملموس. يتحدّث علماء الاجتماع في هذا الإطار عن نوع خاص من المعرفة، أي المعرفة الصامتة التي تُكتسب عن طريق العمل العيني الملموس، ولا يمكن بالتالي نقلُها إلى الآخرين بشكل نظري. حاول أن تشرح لآخرين كيف يمكن دندنة أغنية  Danny Boy. حتى وإن لم يتعلّق الأمر بمعرفةٍ من هذا النوع، فما في ملاحظاته على كتاب آدولف فاغنر  Lehrbuch der politischen Okonomie، يصف ماركس بأسلوبِ فرويد تقريباً، كيف يميّز البشر بين الأشياء المحيطة بهم عن طريق تحديد اللذة والألم المرتبطين بها، وذلك من أجل تصنيفها لاحقاً وفق قدرتها على إرضاء الرغبات أم لا، فالمعرفة تبدأ عند ماركس، كما عند نيتشه، كشكلٍ من أشكال السيطرة على هذه الأشياء. وهي مرتبطة عند الاثنيْن بممارسة السلطة.

ما قلناه أنفا صحيح أيضاً. لا يمكنك تعلّم عزف الكمان مثلًا في كتاب نظري، وأن تحتضن الكمان فوراً وتقدِّم عزفاً حميمياً لقطعة موسيقيّة صعبة من مقام النهوند لمندلسون، ومن  زاوية معيَّنة، لا بدّ من معرفة القطعة الموسيقية قبل التمكّن من عزفها.

يحدِّد الواقعُ المادّي، من وجهة نظر أوسع، أفكارنا. عندما يتحدّث ماركس عن الوعي، فهو لا يفكّر دائماً بالأفكار والقيم الكامنة في تصرّفاتنا اليومية العاديّة، بل كان يقصد أحياناً مفاهيم رسمية كالقانون والعلم والسياسة وما شابه، وكان يقول بأن بناء هذه الأفكار يُحدِّده في نهاية المطاف الواقعُ الاجتماعي. وفيما يلي ما يكتبه ماركس عن النظرية الماركسية الشهيرة والمنتقدة بشدة القاعدة والبنية الفوقية:

(يرضى الناسُ خلال الإنتاج الاجتماعي لحياتهم (أي في عيشهم المشترك) بعلاقاتٍ محدَّدة وضرورية وخارجة عن إرادتهم، بعلاقات إنتاجٍ تتوافق مع درجة تطوّر قواهم المنتجة المادّية. ويشكّل مجملُ علاقات الإنتاج هذه البنية الاقتصاديّة للمجتمع، أي القاعدة الحقيقية التي تتربّع عليها البنيةُ الفوقية السياسية والقانونية التي تتوافق مع أشكال محدَّدة من الوعي الاجتماعي).

يقصد ماركس بـ(البنية الاقتصادية) أو (القاعدة) القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وبـ(البنية الفوقية) المؤسسات كالدولة والقانون والسياسة والدين والثقافة. وتكمن، برأيه، مهمةُ هذه المؤسسات في حماية القاعدة، أي حماية النظام الطبقي الحاكم. وتنفِّذ بعض هذه المؤسسات، كالثقافة والدين، هذه المهمة على أكمل وجه عن طريق إنتاج أفكارٍ تبرّرُ النظام القائم. وهذا ما يُدعى بالعقيدة (إيديولوجيا).

في كتاب (العقيدة الألمانية) يقول ماركس بأن (أفكار الطبقة المسيطرة هي، في كل مرحلة، الأفكارُ المسيطرة). وسيكون من الغريب جداً أن نصادف مجتمعاً إقطاعياً مزدهراً، في حين أن أغلب الأفكار المتداولة فيه معادية للإقطاعيّة بشدة. وبكلمات أخرى، لقد آمن ماركس بأن أولئك الذين يتحكّمون بالإنتاج المادّي، هم الذين يتحكّمون بالإنتاج الفكري أيضاً.

ولا شكّ في أن لهذه النظرية، في عصر كبراء الصحافة وأمراء الميديا، وزناً أكبر بكثير مما كانت عليه أيام ماركس.

بما أن جميع منتقدي ماركس وحتى بعض مناصريه قد سخروا من نموذج (القاعدة- البنية الفوقية) بمافيه الكفاية، أريدُ هنا، بما أنا عليه من عناد، أن أمدحه ببضع كلمات. لقد قيل عنه أحيانا بأنه نموذج جامد جداً.

لكن أليست جميع النماذج جامدة ومبسِّطة للأمور؟ ماركس لم ير أن الحياة الاجتماعية تتألف من جزأين مختلفين تماماً، بل على العكس، رأى أن هناك علاقاتٍ واسعة بين الاثنين. صحيح أن القاعدة هي التي تُنتج البنية الفوقية، لكن البنية الفوقية هامة لضمان استمراريّة القاعدة. ولولا دعم الدولة والنظام القانوني والأحزاب السياسية وتداول الأفكار المؤيِّدة للرأسمالية في الميديا ومواقع أخرى، لكان النظام الرأسمالي أكثر هشاشة بكثير مما هو عليه الآن. كانت هذه العلاقة المتبادلة في مجتمعات ما قبل الرأسمالية أكثر وضوحاً من مساهمة القانون والدين والسياسة وعلاقات القربى في الإنتاج المادّي.

كذلك، ليست البنيةُ الفوقية أقلَّ أهمية، بمعنى أنها أقل واقعيّة. فالسجون ودور العبادة والمدارس ومحطات التلفزة هي مؤسسات واقعية كالبنوك ومناجم الفحم. ربما كانت القاعدةُ أهمَّ من البنية الفوقية. لكن أهمّ، بأي معنى؟ إن الفن أهم بالنسبة لرخاء الإنسان من اختراع نوع جديد من الشوكولاتة. ومع ذلك قد يُحسب هذا لصالح القاعدة، وليس ذاك. قد يقول الماركسيون بأن القاعدة أهمُّ من البنية الفوقية، لأن التغيّرات التاريخية الفعلية تحصل لحدٍّ كبير بواسطة القوى المادّية، وليس عن طريق الأفكار والقناعات.

يمكن لتأثير الأفكار والقناعات أن يكون هائلاً، لكن من وجهة نظر مادّية، فقط عندما تترافق مع مصالح مادية قوية. قد يفسّر هوميروس حرب طروادة من وجهة نظر الشرف والشجاعة وما شابه. أما المؤرّخ اليوناني القديم توكيد، وهو المادّي الصافي على طريقته الخاصة، فيفسّر لنا بشكل واقعي طول فترة الحرب بسببين اثنين، هما: نقصُ الموارد في اليونان، وعادةُ اليونانيين وقف الأعمال الحربية من أجل الاهتمام بالزراعة، ومن ثم متابعة أعمال الغزو. كما يقول توكيد أيضاً بأن كامل نظام السلطة الهيليني استند إلى تطوّر الملاحة ونموّ التجارة الناجمة عنها، وبالتالي انتشار بعض الرخاء. وهكذا نرى أن رؤية التاريخ من زاوية مادّية كانت موجودة قبل ماركس بأزمنة طويلة.

هناك أيضاً عدد لا بأس به من المؤسسات التي يمكن إلحاقها بالقاعدة أو بالبنية الفوقية. فكنائس المولودين المسيحيين الجدد في الولايات المتحدة هي مراكز عقائدية (إيديولوجية)، وهي في الوقت ذاته محالّ اقتصادية مربحة جدا. والشيء ذاته يصح عن دور النشر والصحافة وصناعة السينما. وبعض الجامعات الأمريكية أصبحت أيضاً شركاتٍ ضخمة وخزانات علمٍ وصناعة أفكار. أو لنتذكّر الأمير تشارلز الذي جعل هدف حياته، لحدٍّ بعيد، إشاعة الإجلال في الرأي العام البريطاني وجني الكثير من الأرباح من وراء هذا العمل.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1140 - 22/01/2025