لا تقاعد في الحياة… والعمر أوهام الرقم
البلاد تشهد الحرب والسلام منذ الأزل، لم تُطفأ نارهما ولم تتغير مساحة استيطانهما. الجنود هم أنفسهم، أعرفه الرابض خلف الساتر هناك، لازلنا ندرس معاً في المدرسة القريبة، ضجيج أولاد الحارة لا يهدأ، أسمع بينهم صرختنا، في جدالهم شقاوة أعوامنا الأولى. أخبرتني أن العمر مضى، تلك المرأة الصلبة، كان البحر في عينيها يتماوج عبرات شتوية، والشباب سريعاً مرَّ وكأن الشمس لم تشرق إلا صباح اليوم، ولم تغب إلا منذ ساعات، وكأن القمر بدر اليوم لأول مرة..
ستون عاماً الآن، أتدرين: شيء ما حدث لمرآتي، أعتقده الزمن زاد الخطوط في فضتها، المنزل تبدل حاله كذلك، لا أدري من أين تزورنا كل تلك العائلات، ونحن من نواظب زيارة جدتنا، وننثر فوضانا ونتراكض بفرحها عائدين. ويخمد كل شيء هنا فجأة، يغيب الصوت والفوضى والناس، ويغرق المكان بالصمت. لسكون البيوت رهبة لا يخشاها إلا الوحيد اليائس. تقترب الجدران نحوه أكثر، يغدرالمكان به وينسى عهوده، ويصفعُ وجوهه بذكريات استوطنت كرسيه وطاولته ودفاتره. ليجد نفسه الوحيد الغريب: (لا أحد يحتاجني، شعور باللاجدوى يقهرني، ماذا بعد، بداية النهاية الآن). جذبني منطقُ هذيانها، ستينية لا تعترف بالشيخوخة، استرقتُ النظر لكتاب تحمله، وسألتها:
-لديكِ الكثير لتقدميه للآخرين، آلا تعتقدين أن ثمار المعرفة والخبرة والحكمة ذخيرة يحتاجها جيلنا؟
– أحاول أن أزيد معرفتي أكثر، أعلم أن الحياة كبيرة ومليئة بالعجائب والأخبار والحقائق التي لا تنتهي، والمعرفة لا تتوقف عند حد أو سن معينة. رغم أن معظم هذا الجيل لا يصغي إلا لأفكاره، لكنني أجد فيهم من يفعل.
-الإقالة من العمل، بعد سنوات إنجاز طويلة، هل تسبب لك المرارة؟
لا أفقد وظيفتي بانتهاء سنوات عملي الرسمي، التفرغ والحرية يعدان خطوة إضافية ودرجة أعلى في سلم الحياة. مرحلة جديدة تبدأ الآن، الأرض التي توقدت مواسمها في دفء الصيف، آن لها أن تستريح في حضن الخريف.
التقاعد مغامرة جديدة، وتحدّ وطريق مختلف، وبداية ليس لنهاية وإنما لإشباع ما تبقى في الأيام من أحلام. إن صورة التقدم بالعمر، نتاج مجتمع،نحن من نصنع تلك الصورة المرتبطة بموعد الأجل والضعف والوهن وفقاً للتقدم بالعمر، بالرغم من أن الكثيرين بعمر صغير فقدوا حماستهم ونشاطهم وتحددت إنجازاتهم ولما يتموا الثلاثينيات بعد!
لا تزال الشيخوخة كذبة ودعاية زائفة تؤثر على العقل، الرغبة بالحياة وعدم انتظار النهايات ومنها الموت، ما يجعلنا أناساً ناجحين مبتهجين، دائمي الشباب.أتعلمين: الفيلسوف سقراط تعلم العزف على الآلات الموسيقية وهو في الثمانين، بينما رسم الرسام مايكل أنجل أعظم لوحاته في هذا العمر، بدأ المؤرخ العالمي (ليوبولد فون رانك) كتابه (كتابة تاريخ العالم) في الثمانين وأنهاه في سن الثانية والتسعين. مسرحية (فاوست) للشاعر غوته أنجزت في ثمانينياته، بينما حصل الشاعر شيوس سيمونيدس على جائزة الشعر في هذه المرحلة من العمر.
لا يشيخ الصبر والعطف والحب، والشعر الرمادي ذخر، وليست الشيخوخة بحدثٍ مأساوي، يمتلك الإنسان حواسَّ رائعة، والحياة رحلة روحية لا تنتهي. نشيخ عندما نفقد الاهتمام بالأيام ونتوقف عن الأحلام، أو نبتعد عن الشغف بمعرفة الحقائق، والبحث عن معلومات جديدة عن العالم. علينا أن نرفع الستار عن عيوننا ونرى ضوء البصيرة وحقائق الكون، عندها نتمتع بالحيوية والشباب الروحي على الدوام.
(أنا طفلة الحياة لا أكبر) بهذا ودعتني عيناها الزرقاوتان، من خطوط كفيها قطفتُ عقيدة حياةٍ إنسانية وإيمانٍ بأبدية الحكمة، ومضيت.