عندما تحترم الحكومة إرادة الجماهير الشعبية..!
لعله أمرٌ مثير للدهشة والاستهجان بآنٍ معاً أن تستجيب الحكومة الموقّرة بسرعة مذهلة لإرادة الجماهير الشعبية المطالبة بزيادة الأسعار، لاسيما لمادة المازوت، حسبما جاء في تصريح وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك الذي قال:
(إن قرار زيادة أسعار المازوت جاء استجابة لمطالب المواطنين، وكل قطاعات الشعب والمنظمات الشعبية، بقصد منع الاحتكار والتهريب والفساد والمحافظة على الثروة الوطنية).
إن هذا التصريح يحمل من المتناقضات ما لا يقبله منطق أو عقل، من أول كلمة حتى آخر نقطة فيه، ذلك أن عموم المواطنين يرزحون منذ زمن ليس بالقليل (قبل الأزمة وأثناءها) تحت وطأة الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار المتزايد ساعةً بعد أخرى، والذي التهم ومازال يلتهم كل ما يملكون منذ الأيام الأولى في الشهر، وخصوصاً للعاملين في الدولة، أما سواهم من العاملين في القطاع الخاص وسواه، أو أولئك الذين يُعانون البطالة وتراكم الديون فحدث ولا حرج عن وضعهم المأساوي والمرير الذي لا يليق بكرامة أدنى الكائنات الحية على وجه الأرض، فكيف لعموم أولئك المواطنين أن يطالبوا بزيادة الأسعار لاسيما لمادة المازوت التي ستنعكس حكماً على الكثير الكثير من الأنشطة والفعاليات والسلع ارتفاعاً في الأسعار لا يدفع فاتورتها سوى المواطنين العُزّل والمقهورين؟ ثمّ، لماذا لم تحترم الحكومة ذاتها إرادة الجماهير الشعبية في لجم الغلاء المستفحل بسبب نهم التجار والمحتكرين وجشعهم ولم تقدم على محاسبتهم أو محاولة ضبط الأسواق المنفلتة من كل عقال منذ أربع سنوات..؟
أمّا بشان منع الاحتكار والفساد، فهذه بحدّ ذاتها طرفة العصر في بلد يعيش حرباً فرض خلالها حيتان السوق والتجّار الاحتكار سياسة أساسية من أجل تكديس الأرباح الطائلة على حساب حياة الناس وكرامتهم، والحكومة ذاتها تقف موقف المتفرّج الصامت الذي لا يريد أن يحرّك ساكناً في هذا المجال، رغم أن هناك أساليب عدّة بسيطة وسهلة (تجربة الثمانينيات) يمكن لهذه الحكومة أن تتبعها لتحدّ من احتكار أولئك المجرمين أو فساد بعض المتنفّذين الذين يتاجرون بقوت الناس وحياتهم، غير أن الحكومة لا تريد سوى أن تلجأ لأسهل الحلول من خلال رفع الأسعار، وهي تعلم علم اليقين أن المواطن البسيط هو من سيدفع التكلفة كلها، وذلك خدمة لمن اغتنى وأثرى بين ليلة وضحاها على حساب دمار البلد وجوع المواطنين وألمهم وقهرهم وهدر كرامتهم.. فلماذا لم تحترم الحكومة إرادة الجماهير الشعبية الراغبة في الحصول على مستلزماتها الأساسية من منافذ الدولة وبأسعار الدولة، بدل المتاجرة بها من قبل سماسرة متنفذين ولهم من يساندهم داخل الحكومة ذاتها..؟
وفي إطار (منع التهريب والحفاظ على الثروة الوطنية)، وهذا بحدّ ذاته قول فيه الكثير مما يُثير الحفيظة والدهشة، فكيف لبلد يفتقد للنفط بحكم التخريب الذي طال قطاع النفط أو خروج بعض المنابع عن السيطرة، أن يكون فيه تهريب للنفط أو مشتقاته؟ إضافة إلى أن سعر مادة المازوت في سورية صار أغلى من سعره في سائر دول الجوار، فكيف يمكن تهريبه في ظل وضع كهذا؟ أم هي فقط عبارات إنشائية ترمي إلى التغرير بعقول البسطاء وامتصاص نقمتهم وحسب؟!
واضحٌ أن الذي اقترح على الحكومة أو طالبها بهذا الأمر هم بعض أعضاء مجلس الشعب، كما ورد في خبر بثّته بعض المحطات الإذاعية، إضافة إلى المنظمات الشعبية، وهذه المؤسسات حسبما عوّدتنا عبر تاريخها الطويل لم تُمثّل يوماً إرادة الشعب، لأنها بالأساس لا تُمثّل سوى نفسها وبعض المنتمين إليها بحكم الطريقة التي وصلوا بها إلى أماكنهم، وبحكم مكاسبهم ومصالحهم الشخصية فقط.
فمجلس الشعب الموقر، لم نعلم أنه تقدّم يوماً بطلب محاسبة لا لحكومة أغرقت البلاد بأزمات متعددة كحكومة العطري والدردري، ولا لأولئك الفاسدين في الوزارات والدوائر الرسمية، والذين- بحكم مناصبهم- يتاجرون بقوت الشعب قبل الأزمة والحرب وبعدها (ومن ضمنهم أشخاص في مؤسسة محروقات ذاتها، كما أورد موقع دمشق الآن)، ولم نعلم يوماً أنه تقدّم بطلب محاسبة لوزير أو مسؤول أهمل واجباته، أو تطاول على حقوق الشعب. إضافة إلى أنه لم يتخذ يوماً موقفاً حاسماً وأساسياً تجاه تحرير الأسواق والأسعار سواء قبل الأزمة أو بعدها، لاسيما حين رُفع الدعم عن أهم السلع الضرورية لمعيشة المواطنين، ولم يُطالب يوماً- باستثناء قلة قليلة من أعضائه- ولم يبد استهجانه لواقع مأساوي ومرعب تعيشه الفئات الشعبية المسحوقة التي تدفع وحدها ضريبة الأزمة والحرب من لقمة عيشها وعملها وصحتها دون أن يرف جفن لأيٍّ من ممثلي الشعب، الذين سكتوا أو تجاهلوا على مدى هذه السنوات معالجة مسألة الرواتب والأجور بما يتناسب والوضع المادي والاقتصادي المُزري لجميع قطاعات الشعب، لاسيما أولئك العاملين بأجر يومي بعيداً عن مظلة الحماية التأمينية، وكذلك العاطلون عن العمل بحكم الظروف الراهنة التي أطاحت بعملهم وسكنهم واستقرارهم.
والأمر ذاته ينطبق على المنظمات الشعبية التي هجرت هي الأخرى منذ زمنٍ سحيق الشرائح التي من المفترض أن تُمثلها أو تُعنى بأمورها، وبالتالي ما هي إلاّ منظمات ومؤسسات رسمية صرف تسير وفق خط وقرار سياسي رسمي يوضع لها، لا يمكنها تخطيه بأي حالٍ من الأحوال حتى لو كان لمصلحة من تمثلهم. فمثلاً اتحاد نقابات العمال الذي احتفل مطلع الأسبوع الماضي بافتتاح المؤتمر ،26 والذي من المفترض أن يكون المدافع الشرس عن الطبقة العاملة بكل قطاعاتها، والتي لاقت ما لاقته من قسوة القرارات الجائرة بحقها، سواء في زمن الحكومات السابقة للأزمة التي عملت على تحرير الاقتصاد وفتح الأسواق مشرّعة للسلع والمستوردات على حساب الإنتاج المحلي وأصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وعلى حساب القطاع العام الذي أهملته كلياً، في محاولة ونيّة واضحة لإلغائه أو تحجيمه، وبالتالي القضاء على المكاسب العمالية وارتفاع نسب البطالة الحقيقية والمقنّعة إلى مستويات مرعبة في ظل رواتب وأجور لا تتناسب مع جهد العامل ولا مع الواقع المادي والاقتصادي المتردي يوماً بعد يوم وصولاً إلى سنوات الأزمة الحالية التي التهمت البقية الباقية من الحقوق وكرامة العمال وأسرهم أينما كانوا، مكتفياً- اتحاد العمال- فقط بالبيانات الإنشائية الخطابية التي عفا عليها الزمن. وكان لافتاً أن رئيس الاتحاد السيد شعبان عزوز قد قال في كلمته التي ألقاها في حفل افتتاح المؤتمر 26 للاتحاد الذي جاء صبيحة القرارات الصادمة برفع الأسعار لأهم المواد الأساسية:
(إن عمال سورية يعقدون مؤتمرهم وهم يتطلعون لمزيد من الجهد لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ووضع حدّ للغلاء، وتوسيع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة في مجال التجارة الداخلية والخارجية، وتوفير السلع والمواد الأساسية، والتدخل الحكومي الإيجابي، والرقابة التموينية المتشددة، ووضع حدٍ للمحتكرين وتجار الأزمة..)، فهل يُعقل أن تكون هي ذاتها مطالب ممثلي الطبقة العاملة بعد أربع سنوات من القهر والذل والتشرّد..؟ وهل يُعقل أن تكون هذه الطبقة هي التي طالبت بزيادة أسعار المازوت وغيره من السلع الأساسية التي صارت حلماً بعيد المنال عن هذه الطبقة وسواها من المواطنين الذين يعانون موتاً بطيئاً في ظل شتاء قارس مرعب ببرودته الطبيعية، وبرودته التي فرضها حيتان السوق على الناس لانعدام المادة الأساسية للتدفئة..؟ ثمّ لماذا لم يتخذ هذا الاتحاد الموّقر موقفاً حيال تشريع تعويض المعيشة الذي حمله المرسوم رقم 7 بقيمة 4000 ل.س للعاملين في الدولة من المدنيين والعسكريين، وكذلك للمؤمّن عليهم من القطاع الخاص؟ وبالتالي إهمال شرائح واسعة من عمال القطاع الخاص غير المشمولين بمظلة الحماية التأمينية، بفعل تهرّب أصحاب العمل من تسجيلهم في التأمينات وعلى مرأى الحكومة ذاتها ومسمعها؟ كذلك العاملون بأجر يومي، والعاطلون عن العمل الذين أساساً لا مورد محترماً لديهم من أجل تحمّل مجمل الأوضاع المأساوية، رغم أن هذا التعويض لا يمكنه أن يغطي ارتفاع أسعار الخبز والغاز لأسرة صغيرة، فكيف بالأسر الكبيرة..؟
ألم يحن الوقت بعد كي يشعر المواطن بأن ممثليه في المنظمات الشعبية ومجلس الشعب أمناء بالفعل على حقوقه التي من المفترض أن يسعوا جاهدين لحمايتها ومنع التلاعب بها من قبل المحتكرين وتجّار الأزمات والحروب الذين لا يقلون إجراماً عن حاملي السلاح ضدّ الوطن ومواطنيه..؟