فساتين باردو… ومازاوات أبو جدعان
منذ زمن، لم يعد (تصميم الأزياء)، أو (طهو الطعام). هواية أو ممارسة تتصف بالفنية وحسب. وإنما غدا كلاهما فناً تقانياً قائماً بذاته، له روّاده المشاهير، وهواته وجمهوره.
فقد يضع مصمم بارع ما فستاناً نسائياً، يكون قد صممه لامرأة معيّنة.. أو طبقه على مجسّد بعينه. فتصادفه بعض النسوة فيُغجبنَ به ويشترونه. وتراه عليهنّ زميلات، فيغرن ويقتنينه. وهكذا يصبح الفستان موضة أو موديلاً.
وقد يخترع (شيف) ذوّاق، نوعاً من المازاوات، لم يسبقه إليه أحد. ويتذوقه بعض الزبائن، فيستلذونه ويطلبونه. ثم يدلُّون أصدقاءهم ومعارفهم على ذلك الشيف، أو ذاك المحل، وهؤلاء يدلُّون آخرين. فينتشر ذلك النوع من المازة وتعمُّ شهرته الآفاق.
ما يلفت العناية، ليس إثبات عضوية هذين التخصصين، أو عدمه، في (مجلس اتحاد الفن العالمي). فالمجلس مساحته واسعة، والاتحاد صدره رحب، والفن الحقيقي يبقى، أما الزبد فيذهب. إنما القضية هي، في تعاطي (الجمهور) مع هذين الفنين.
فالفستان/الموضة، الذي يكون جميلاً على هذه المرأة وساحراً على تلك، بسبب من تلاؤمه مع لون البشرة وطول القامة لكل منهما. قد لا تشفع له موضته، ويبدو كاريكاتورياً على امرأة ثالثة، ليس لها قوام الأوليتين، ولا نقاوة بشرتيهما. والقميص المنزلي، الذي تلبسه الثالثة، على قدمه وتواضعه ، تراه عليها ، لتناغمه وتناسقه مع تكوراتها،( يأكل ويشرب ) ولا أحد فساتين بريجيت باردو!
ومائدة ملوكيه ، تعج بمختلف المازوات الثمينة الفاخرة وذائعة الصيت . لاتساوي لدى ريفيّ صاحب كيف ( يعرف طعمة تمّو) كأبي جدعان، صحن بطاطا نص سلقة، تعفّرُ بالملح والفلفل . مع طبق سلطة ، من خبيص المكدوس والفجل والبندورة ، من يديّ أم جدعان !
ومن الأهمية والخطورة والطرافة بمكان وآن. أن الموضة أو الموديل، لا ينحصر دورهما في مجال الأكل والشرب والثياب وما إليها. بل يتعديانها إلى سواها، كمجالي الفنون والآداب، حيث يصبح الانجراف بتيار الموضة، والانقياد إلى إغراء الموديل، مثلباً في جديّة وصدق الموهبة، ومقتلاً للمنتج الفنّي ذاته.
يظهر لأحد الشعراء ديوان غزلي. فينتشر في القراء، انتشار الهواء في الفراغ، لأسباب غير مخفيّة، ليس أولها المَلَكَة الشعرية الصادر عنها، ولا آخرها اللغة والأسلوب، اللذان ينفرد بهما ذلك الشاعر. وإذا بحَمَلة اللقب يتقلّدون أسلحة الغزل، ويتمنطقون بجنادات مفرداته، ويقصدون وادي عبقر لاصطياد القصائد. التي سرعان ما تعلّب في كتب، ما أن يفتحها هاوٍ أو متذوّق حتى يفجؤه أنها تحتوي أشياء كثيرة متنوعة، لكن ليس بينها الشعر، الذي غاب لغياب الشاعر!
وقد يُغوى قاصٌ (له أسلوبه الخاص في القص، بغض النظر عن إعجابنا به أو عدمه) بكتابة المقالة صادراً في غوايته عن القولة الشعبية: ما حدا أحسن من حدا. فإذا بمقالاته تنضح رتابة وملالة، لأن القارئ، ومنذ الجملة الأولى في المقالة ، يعرف فحواها ومتنها وختامها.
وإذا كان لا ضير على من يحاكي الآخرين، في المأكل والمشرب والملبس، غير أن يُدعى مُقلِّداً وع الموضة، (الأخيرة التي يصفونها بأنها ذوق مَنْ لا ذوق له). فالتقليد في الأدب والفن، لن يمضي بأقل من سحب الصفة عن المُنْتَج الإبداعي، ونفي الهوية عن صاحبه!