فرصة بعد فشل.. بناء اقتصادنا بجناحيه التنمويين: الزراعة والصناعة

 

للفشل الاقتصادي السوري عناوين كثيرة، ونكهة خاصة، ويندرج في هذا الإطار التشكيك بالمنجزات الحكومية في مختلف المراحل. ويرتبط الأمر بفشل السياسات الحكومية، وابتعاد الخطط عن هموم الناس، وعدم محاكاة تطلعات المواطنين. هذا الفشل يمكن قراءة دلالاته الخطيرة والشائكة، بفشل السياسات السكانية، التي لم تستطع الحد من التزايد السكاني الهائل. ولادات بالجملة سنوياً، تجاوزت 600 ألف، في سني ماقبل الأزمة الراهنة، وتجاوزت400 ألف في العام الماضي. هذا الفشل المخيف، لايقل خطورة عن الفشل في الاستفادة من القيمة المضافة لزراعة القطن، أو في الحد من ترييف المدن. في الريف السوري كان هناك فلاحون ومزارعون ومربّو ثروة حيوانية، لا قاطنون فقط، مكلفون باستقبال القرارات الحكومية كما هي، التي أدّت إلى انسلاخهم عن ريفهم، وانفصالهم عن قرويتهم الجميلة. هل تجرأت حكومة وأخبرنا وزير إسكانها عن عدد الأسر التي تتخلى سنوياً عن بيوت الإيجار، وتتملك بيوتاً بصكوك ملكية خاصة بها؟ وفي السياق عينه، هل كانت الحكومات تظن أن التحدي الكبير أمام اقتصادنا يتمثل بزيادة معدل النمو، أم يضاف إليه مكافحة الأمية؟  بزيادة الإنفاق على التعليم أم بتحسين جودة مخرجاته؟ بزيادة الإيداعات المصرفية أم بطرق تشغيلها؟ بعدد المستثمرين أم بنوعية مشاريعهم؟ بالاستيراد أم بالتصدير؟ بعدد الراغبين في الانضمام إلى جيش العاملين في القطاع العام أم بالراغبين في تأسيس مشاريعهم الخاصة؟ بالعاملين في اختصاصهم أم بهجرة الكفاءات؟ بالقوى العاملة أم بطرق الاستفادة من إمكاناتها؟

كان عدد منتقدي نهج اقتصاد السوق الاجتماعي ورافضيه، أكثر بكثير من المهلّلين والمؤيدين له، أتى النهج بغتة، لم ينظر واضعوه إلى حالة الرفض، ومدى خطورتها على إفشاله، وتُرك الأمر يسير بقناة واحدة، وينفَّذ من فوق إلى تحت، ما أفقده فرصة الدعم الممكنة التي تعد أحد أشكال النجاح وإحدى ضماناته.كان منتظراً أن يكون النهج المذكور حاملاً للتغيير، وفرصة من بين عدد آخر من الفرص للانطلاق نحو مستقبل أفضل للبلاد. إلا أن الصدمة التي تعرض لها السوريون آنذاك، كانت كفيلة بالتعبير عن رفضهم الانزلاق إلى هاويات جديدة من الفقر، فيما المسؤولون يزرعون الأمل لدى الناس بأن القادم من الأيام سيكون الأفضل على مختلف المستويات. شكّل اقتصاد السوق الاجتماعي نقطة تحول مهمة في التاريخ الاقتصادي للبلاد، ورغم أن السوريين لم يهتموا كثيراً بالتسمية الجميلة للنهج الاقتصادي، ظل سؤالهم الجوهري: كيف ستطبق الحكومة هذا النهج؟ بلا إجابات حتى الآن، ولم تجر أية عملية مراجعة أو تقييم لتلك التجربة المريرة. فشل اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق نقلة نوعية، وتطوّر مهمّ، في حيوات السوريين، ما يعني فشلاً في مجال التنمية الموعودة، التي انتظرها العاطلون عن العمل، وذوو الدخل المحدود، والفئات الفقيرة والهشة، والضعفاء اقتصادياً. لم يعترف أحد بالفشل المذكور، ولم يحاسب مسؤول عن انحراف النهج والخطط عن مسارها، وفشلها في تحقيق النتائج المرجوة، وكالعادة بحث المعنيون عن نهج جديد، وطيّ صفحة خمس سنوات من الكلام المعسول.

قراءة الفشل الاقتصادي، لا تعني بالضرورة جلد الذات كما يظن البعض، أو توجيه أصابع الاتهام لأحد بعينه، النقطة الجوهرية تتعلق بالاستفادة من الخيبات التي تجرّعنا مراراتها، ودفعنا ثمنها، وخسرنا بسببها ما لايمكن تعويضه. فالغموض الاقتصادي لجهة النهج والتوجه والسياسات، ترك اقتصادنا  بلا ملامح، يتنقل عشوائياً بين المدارس المختلفة، يأخذ من كل مدرسة شذرة واحدة، في ظنِّ بأن ذلك يرسخ الخصوصية، ويدعم الموقف الوطني، ويعزز من استقلالية الاقتصاد، وعدم ربطه بمصالح الدول الأخرى. فكانت النتيجة القاتلة: الاستحواذ، والتركّز، والاحتكار، وغيرها من العناوين أو الأمراض التي يصعب الشفاء منها بسهولة.

أنجزت الحكومات التي تولت قيادة البلاد خلال العقد الأول من القرن الحالي، ثورة تشريعية ضخمة، ألغت قوانين عفى عليها الزمن، سنّت تشريعات جديدة تتناسب مع التطور العالمي، لكن الأمراض القاتلة في مجال إدارة الملف الاقتصادي والإداري في البلاد، حوَّل هذه التشريعات الجديدة إلى تحصيل حاصل، أفكار وابتكارات عصرية بين أيدي إدارات مصرّة على نهج معين، وطرائق محددة في العمل ليس أقلها تلقي التوجيهات، والالتزام برأي الإدارات العليا.

 الآن الفرصة مهيأة للولوج إلى عمق تلك الخيبات، ودراسة الأسباب التي أدت إلى تتالي الفشل الاقتصادي في زمنَيْ الحرب الطاحنة الراهنة وماقبلها. فمن يستثمر هذه الفرصة؟

 على مدى سنوات طويلة، وعقود مريرة، صنعنا فشلنا الاقتصادي، بلا إرادة، فهل برغبتنا يمكن أن نبني اقتصادنا بجناحيه التنمويين: الزراعة والصناعة؟

العدد 1140 - 22/01/2025