القطاع العام ضرورة حتمية للعودة القوية

 

القطاع العام كان ركيزة البناء والتنمية والإدارة الواقعية العقلانية للتنمية والاستقرار، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتأمين الحاجات الأساسية، والتوازن البنيوي وتهشيمه وقتله سبب  الخلل بالتوازانات العامة، وهو كذلك أساس وركيزة الانطلاقة والعودة القوية والإدارة العقلانية الواقعية لسورية وتنميتها والعودة بها جسداً معافى سليماً، ولا شيء يشهد على قيمة وأهمية ما قام به بمختلف أنواعه أكثر مما أنجزه على مستوى الوطن السوري وحتى إنجازاته تخطت سورية لبلدان كثيرة كما حصل بالنسبة للقطاع الإنشائي، فقد قام هذا القطاع بدور هام وكبير وأساسي في مختلف الأصعدة التنموية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، في مختلف مناطق ومدن وأرياف سورية وأعطى للحكومة دوراً هاماً وقوياً في إدارة العملية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والتنشئة الاجتماعية، حيث تعددت فروعه وانتشر بشكل عمودي وأفقي، فكان القطاع العام الزراعي والصناعي بمختلف أنواعه والخدمي بكافة مجالاته..

فكانت الحكومة مسؤولة عبره عن تامين مستلزمات الانطلاقة القوية للوصول للأمن الغذائي الذي أعطى البلد قوة وصلابة وخربط أوراق كل من يحاول النيل من بلدنا، وكسر الحصار المفروض، وطوَّر الانتاج الزراعي والحيواني، فالحكومة تؤمن البذار اللازم والأدوية والأسمدة والآلات والعدد سواء عن طريق الاستيراد أو التصنيع المحلي، وتساهم كذلك بالإنتاج الزراعي عن طريق ملكية الأراضي، وأخيراً هي المسؤولة عن شراء المحاصيل الاستراتيجية من الفلاحين، واستطاعت الحفاظ على الثروة المائية من خلال إقامة السدود بكافة المدن والمحافظات من خلال الشركات المحلية.

والقطاع العام الصناعي بمختلف مجالاته الغذائي والدوائي والتحويلي والكيميائي والنسيجي

ومن ثم الخدمي، سواء في مجال التعليم والصحة والخدمات المالية ونشر الثقافة والرياضة عبر المراكز الثقافية التي لم تترك منطقة إلا وانتشرت به، والمدن الرياضية والتسويقي الداخلي أو الخارجي..

ولكن بعض قاصري الرؤى والبعيدين عن الواقع، وممن اغتنوا بالفساد من خلال محاولة هدمه وتخريبه، أصبحوا ينظرون لهذا القطاع وقوته وصلابته وفاعليته خطراً مستقبلياً على تراكم ثرواتهم وعلى صلاحياتهم ومزاياهم. فتكونت نظرة لهدمه وتقويض دوره عبر سياسات مختلفة وعبر تضليل بالأرقام وخنق بالقوانين والأنظمة، وأصبح هذا القطاع عبارة عن مختبر لتجريب جميع الأدوية الفاسدة أو منع الدواء القادر على شفائه، وبدأ الموضوع بالقطاع العام الإنشائي الذي كان له الفضل في البنية التحتية المنتشرة في كل المناطق والأرياف والمدن من ضواحٍ سكنية ومدن رياضية وجسور وموانئ وجامعات ومدارس ومشافٍ وأبنية فخمة، وحلَّ الكثير من الأزمات، واستلم مشاريع خارج سورية، وأصبح الإهمال هو العنوان له مع عدم تجديد آلاته وتركها للصدأ وتقويض استلامه للمشاريع أو يأخذها ليوكلها للخاص، كل ذلك مع التصريحات المتكررة عن العمالة الفائضة فيه وقلة جودة خدماته، علماً أن هناك فارق في الجودة بينه وبين الخاص بأشياء خيالية، وأن الخاص لم يتصدَّ للمشاريع بنسبه اللافتة للنظر إلا على حساب الجودة، وقد كان الأحرى أن يكون الخاص عوناً ومنافساً لتطوير الأداء وزيادة فعاليته لا أن نقتل العام، وكذلك لم ينج القطاع العام الصناعي الذي تصدى لتأمين أغلب السلع التي نحتاجها، وعوضنا عن الاستيراد، ورفد الخزينة بمليارات الليرات، ووفر مليارات الدولارات، ووظف مئات آلاف العمالة، وساهم بقوة في تنمية مستقلة متوازنة مستمرة، لكن هذه الاستمرارية نظر لها من ناحية قطع الطريق على اغتناء وثراء البعض، فوضعت العراقيل ضده عن طريق تعيينات تعتمد على الولاءات وعدم المحاسبة وعدم استخدام أموال الاهتلاكات لتجديد الآلات وعبر تقييد سياسات التسويق، وفرض رفع الرسوم والضرائب ليستطيع الخاص اقتحام مجالاته وتسويق سلعه المستوردة او المصنعة محلياً ولا يمكن ان يستمر بها من دون تقويض العام، وشكلت عشرات اللجان لإصلاحه، وخرجت بتوصيات لكنها ظلت حبيسة الأدراج، ولم تصرف الأموال التي خصصت لتطويره وكل ذلك بأسلوب قتل علني لقطاع أثبت نجاحه بكافة الصناعات الغذائية والتحويلية والكيميائية والنسيجية، فأصبح الهم العرقلة عبر القوانين ومنع نجاحه، وكلنا يذكر تجريب الإدارة بالأهداف على أربعة معامل، وعندما نجحت ألغيت الفكرة، ومنها صناعة الأدوية، وكذلك إغلاق معامل الكونسروة التي كانت ذات جودة عالية، ولكن جرى التغاضي عن الهدر والفساد ليوصلنا لقناعة عدم جدوى الاستمرار، فأغلقت مصانعه في أغلب سورية. والمحركات والألمنيوم وغيرها من المعامل التي خسرت وحُيدت من الخدمة لفسح المجال أمام الاستيراد أو لقطاع خاص محتكر بعيد عن المنافسة، وكذلك يفاجئنا استمرار المصاريف والهدر لهذه المعامل ومكافأة إداراتها ونقلهم لمواقع أفضل بعد إغلاق هذه المعامل، وهنا نقول جميل أن تكون هناك منافسة عادلة، وأن تكون الجهود متكاملة للبناء ولتأمين المستلزمات السلعية والخدمات، ولكن ضمن الظروف الواقعية لا ضمن سياسات القتل والتخسير عبر قوانين غير مراعية، وعدم إعطاء الدواء المناسب، واستمرار الهدر والفساد، ورفع الأسعار غير المبرر والرسوم كما حصل بمعمل الاسمنت والأسمدة، أو عبر التلاعب بالعقل والوعي عبر محاول السلب بأساليب يلعب بها على الخصخصة كعنوان المشاركة بالإدارة وتأجير القطاعات المنتجة كما  حصل بمعمل أسمنت طرطوس، ورغم كل ما تكلموا عنه من خسارات استمرت لجان الشراء ومشترياتها عنوان الفساد والهدر المستمر.

وكذلك القطاع الخدمي لم يسلم من سياسات وفرض قوانين هدفها تقويض دوره وإقحام الخاص بطريقة يحصل على فوائد ومزايا وأموال بأسلوب الاحتكار أو الفرض، كما حصل بشركات التأمين، ومحاولة إقحامها بتقويض دور المؤسسات العامة التي كانت تؤدي الدور أو اقتطاع جزء من الخدمات للعام وتحويلها للخاص، أو تحويل جزء من الخدمات من دون متابعة جودة الأداء أو حتى وصول الخدمة للزبون، كما حصل مع شركات التأمين الصحي، وكذلك بتقويض دور مؤسسات التجارة الخارجية، بحيث تترك المجال لقلة من المحتكرين للتحكم بالأسعار، وإن أرادت الدولة الاستيراد فعن طريق نفس هؤلاء المحتكرين، وكذلك تقزيم دور مؤسسات التدخل الإيجابي كاستهلاكية وتخزين وطرح أغلب منشآتها للاستثمار من قبل الخاص، وكذلك رفع الرسوم للمؤسسات التعليمية والصحية، والتغاضي عن جودتها لفسح المجال للقطاع الخاص بأخذ دوره  الذي لن يكون إن استمر العام بما قدمه وجرت مراقبة جودته، وكذلك ما حصل مع قطاعات الخدمات الأخرى كمحطات الحاويات، وتفعيل شركات طيران وصالات استقبال على حسابه وعن طريق بنيته التحتية.

كل ذلك يجعلنا نصل للاستنتاج الواضح أن واقع القطاع العام هو السبب فيما وصل له، ولكن السير بعكس حاجاته والتغاضي عن أي علاج لتطوره ومعافاته والسير بعقلية همّها تخسيره وتحييده عن الحياة بكافة أشكاله ليكون البديل قلة همها الاغتناء بأي شكل لا تهتم بالقطاعات الانتاجية أو الخدمية ومخرجاتها، وإنما همها تكريس الأموال بأي أسلوب تحت لافتة اقتصاد السوق الاجتماعي وتحت شعار الليبرالية التي تحابي مقررات مؤتمر واشنطن ووصفات المؤسسات الدولية الهادفة إلى سحب سيطرة الحكومات على الحياة بكل أشكالها وخاصة الاقتصادية، لإصابة المجتمع بالعلل القاتلة، وأهم توصية هي الخصخصة وتحرير التجارة ورفع الدعم ورفع سعر المحروقات ورفع الضرائب والرسوم وتخفيضها على المستوردات، وبالتالي تكون هناك قلة تتحكم بمفاتيح الاقتصاد وتضعف دور المؤسسات التي إن لم تعد روحيتها لم تستطع فرض الرؤية القادرة على ضبط المجتمع وإعادة الحيوية وفرض القانون على الجميع وإعادة العدالة الاجتماعية وتأمين الحاجات الإنسانية، فالقطاع العام كان ركيزة البناء التنموي، وهو ركيزة إعادة البناء والإعمار، وهو المحدد لكيفية ومدى مساعدة الخاص في مجالات محددة تساهم في البناء وتحقق الأرباح ولا تكدس الثروات على حساب تناقض المجتمع والبناء.

العدد 1140 - 22/01/2025