أحلام مصادرة

تعلّمنا كيف نلقّم البندقية لكننا لم نتعلم أبداً كيف نصوّب؟!

طفولتي، التي ما زالت عالقة بذاكرتي، لم تكن لتمتهن الخوف، ولم يكن  ليخيفني صدى تلك الطلقات النارية التي كانت تخرج من بندقية الصيد  (الكسر) التي دأب أبي يعلمني تنظيفها وكيف أمسح فوهتها بتأنٍّ، في قرية صغيرة لم تكن تضيق على 3000 نسمة، حيث شباب الضيعة كلهم يتسابقون في ساحتها من سينجح بالتصويب على طريدته من تلك الطيور المسكينة، التي ضاقت بها فسحة الحياة.. كان صوت إطلاق النار يأتي عفوياً عادياً، لربما مع الوقت تتعرف على ملامح ذاك الصوت وإلى أين يأخذك..!

يحدثني سامر بذاكرة لم يصبها العطب بعد: كبرتُ مع زمن أكثر ملامحه هشة، كما يقول، وبخطوات ألفت المشهد.. تخطو بحذر بين طفولة عصفور الدوري والستيتية والخرتوش، وبين وطن يرتدي اليوم وشاحاً من الحزن  يجمع فيه خيبات أطفاله.. يلفُّها، يحملها إلى حاضرها مدججة بحاملات صواريخ وقاذفات هاون ومدافع.. لتخطو على قارعة الأمنيات الضحلة، الفارغة، ملامسة صباحاً ماجناً مملوءاً بفراغ صدئ، لتصرخ طفولته من أعماقها: (لم يعد أطفالنا ينامون اليوم على هدهدة (يلله تنام يلله تنام لدبحلا طير الحمام…) فحمام هذه المنطقة هُجّر كما هجّر أهلوه.. هو أيضاً خائف.. مرتبك.. مهزوم.. مُتّهم.. بل أصوات خرطوش الرصاص التي كنا نتغاوى بسماعها كبرت اليوم كما حجر تلقيه في بحيرة، واللعبة التي كنا نلهو بها.. صارت لعبة الموت، والطلقات التي التقطناها بيدنا يوماً ومسحناها بقميصنا هي من تمزّق ذاك القميص.. عرفتُ اليوم أننا تعلمنا كيف نلقّم البندقية، لكننا لم نتعلم أبداً كيف نصوّب ولا إلى أين؟!).

اليوم، يشهد ذاك الفتى العشريني ثكل قريته.. ينتظر في طابور الموتى القادم.. يقول: (بعدنا لا ثمة من يبكيها.. ولن يبكيها..)..أصبح الأهل والناس فيها بلا ملامح. إنهم من كل الأطياف لكن لا لون لهم.. أصبحوا طوائف متشعبة ومتعددة. الزمن واقف هنا.. ولا حياة تدب في مفاصلها.. كل واحد يراقب الآخر، يترصده لكن لا أحد يعرف لماذا وإلى متى؟ حتى إذا ما وجدتَ شخصاً وسلّمت عليه تجد كل الوجوه تتطلع إليه، فيمتلئ خوفاً من أن تقنصه أو تقتله يد الغدر والخيانة.. للموت صوت أكثر وضوحاً في هذه القرية.. التي كانت تضج بأصوات أطفالها وشبابها.

 اليوم كل شيء تغير.. نأكل خائفين.. ننام خائفين… ورفاق الماضي الذين كنا نتسابق معهم من يصوّب ببندقيته ويصيب ذاك الطير.. أصبحنا نخافهم.. لعلنا نحن الطريد.. الذي يصوّبون عليه.. فجسدي بات ثقيلاً كرصاصة يرميه النوم على ضفة أخرى. جسد يقتات النوم كما تقتات شقائق النعمان في بستاننا رائحة الندى، أدخل في النوم رويداً رويداً على وقع أصوات بعيدة، أصوات قادمة من ماضٍ قريب.. حين كان أبي يشد على يدي دائماً لأمسك تلك البندقية التي كنت أخافها، ويصرّ على أن أقبض على كل مفاتيحها، لأكون رجلاً – كما كان يقول.. لا أدري إن كان يبني لي (حلماً آمناً) حينذاك..

  تصطدم بمشهد حيّ من الحياة، في هذه القرية حين تجلس مع أسرة صغيرة.. عاندت وقاومت كل بطش هذه الحرب، تحدثك عن إمكانية التعايش في هذه الحرب. حيث ضحالة الحياة وكثرة الموت.. وتعلّمك أن كل هذا الدمار لا ينبغي أن يخيّب فرحة هذه الطفولة.. ولا يقتل يقينهم بحلم يقاوم كشجرة السنديان تلك التي نتفيأ ظلها.. 

حين يسأل طفل صديق خوفه وتشرده: ماذا ستفعل حين تنتهي هذه الحرب؟!

– إن كنت ما زلت حياً، سأعود لأكمل ما بدأته..

–  وماذا كنتَ تفعل؟

–  كنت أعدّ الثواني وأرقب الوقت.. وما بينهما أخيط أحلامي كما أخيط طائرتي الورقية… سأنهيها… أخبرك حينئذ لأطير إلى عالم أقلّ إنسانية..

العدد 1140 - 22/01/2025