عندما يضحكنا زياد الرحباني

زياد الرحباني فنان إشكالي بامتياز، فإن التقطه الإعلام تبدو ساعة الحقيقة استدعاء لذاكرة زياد مع السخرية فناً ومع الضحك أداة، ليقول ما يريده في برهة إعلامية أو انخطافة لا يحيد زياد فيها عن أن يكون زياداً، يشتق هجاؤه من أحابيل السياسة ومفارقات العيش على الطريقة اللبنانية، ذلك الذي يشبه ذاته ولا يشبه شيء آخر مطلقاً، ويكاد لسان زياد أن يمنح (المذيع) انفراجاً لضحك عميق يتقطع به الكلام، ذلك أن طريقته فيما يروي، وشكل الروي لديه هو نكتة بحد ذاتها، فإن أضحكنا زياد حرر في ذواتنا قولاً ملتبساً مما جرى ويجري، في تلك الكوميديا الطليقة التي غالباً ما تتخذ لها اسماً مخاتلاً: (الحياة)!

 كأننا به (جرداقي) آخر – نسبة إلى الراحل الساخر جورج جرداق- يقلب في أحوال البلاد والعباد، فيدهشك باستخلاصه وهو قبلاً قد باح به غير مرة في مسرحياته الشهيرة (من أجل الكرامة والشعب العنيد) على سبيل المثال، لكن مقولة الشعب العنيد سوف تأخذ تجلياتها فيما صكّه من تعبير أكثر حداثة وأعمق في سخريته، حينما قال بالعنفوان الذي انتهت صلاحيته، فلا يستعير زياد دور (الأنثربولوجي) ليحلل ويركب ويفكك بقدر ما يطمئن إلى اشتقاق المعادل اللغوي، لما يراه في أنساق الثقافة ومضمراتها، وبوصفه شديد النزوع إلى هجاء قبح لا تُحتمل خفته، ليكون لسان لغة متجددة تذهب إلى فقه الكلمة لا استعارتها فحسب. وبوسع من يرى الضحك علامة وإحالة إلى مواقف بعينها أن يستقرئ زياداً ساخراً في لحظته اللبنانية المفتوحة على فضائها الآخر، ومؤولاً خطابات ثقافية الطابع قبل أن تكون شيئاً آخر، لأن له طريقته في الرصد والمقاربة وتشكيل الفكرة، إذ الفكرة بذاتها من تستدعي السخرية من جديد تبعاً لطبيعتها الثابتة لدى قارئ متغير.

أن يحملنا زياد الرحباني على الضحك، ليست هي المعادلة، بل هي الرؤية الأوسع في حلكة مفارقات لا حد لها تعبث بمستقبل بلد تُلبس الوجوه أقنعة زائفة، لتكون بغير مكانها، الضحك أو النسيان أو ما يرجم بحجر الضحك سواداً ظلل القلوب والكلمات والمواقف والرؤى واشتد في مفاصلها كمصير أكثر بؤساً من النهايات المعتلة، والبدايات التي تظل هي مجرد بدايات.

أن يضحكنا زياد الرحباني بجدية العارف، هو أكثر من مقاربة قبح السياسة والأخلاق  والأفكار والسلوك، إلى اشتقاق البديل بالفن، الذي يبدو أنه قد يلملم حوائجه ليصبح في غير أرض، في أرض بعيدة بما يكفي عن الابتذال والهشاشة في تبسيطها المخلّ، لا في دلالتها القوية.

أن نضحك مع زياد دون أن يُذهبنا الضحك عن محترفي اللعب وصانعي قواعده، أولئك، أولئك الذين مكثوا خلف البحار، ليُميتوا على الرقعة الشطرنجية (الشرق الأوسط) ذلك التوصيف المُلتبس: (الجنود وربما الملك) أيضاً، لتتواتر الألعاب من جديد لتُلهم مخيلتهم بحرائق لا تجري على أرضهم بالذات.

اعتاد جمهور زياد الرحباني وغالبيتهم من الشباب المفرط الحماسة، أن يجعلوا منه أنموذجهم الخالص ليستدعوا الحقيقة كلماتهم، وكيف لا وسادنها هو من يلهمهم في كل إطلالة إعلامية أو فنية على الجديد دائماً، ليظهر الموقف من وراء كلمات ليست غايتها إظهار عضلات الضحك، بقدر ما هي كشف أوراق على مرأى من الذاكرة ومن الكلمات ذاتها، ليكون زياد صانع حدث لا تُضيف إليه الحياة المعاصرة من سخريتها وهجائها، بل هو من يضيف إليها نكهة رحبانية بامتياز، وهو الرائي لانفلات الإيقاعات، وكيف يضبطها بلحظة توازن مقصود، ليصوغ خطابه مضاداً لمعرفة لا شكل لها ومُصوباً منطقاً جميلاً لبؤس الواقع، كيف يصبح حقيقة.

اعتاد زياد في مقاهيه الثقافية التي غالباً ما يجتمع فيها بنفر من (المثقفين) أن يقرأ الواقع بسخرية مضادة ويذهب في تأليف قصص صغيرة يمنحها متخيله بعيداً عن مُتخيل الواقع لتكون النكتة حاضرة شاخصة على طاولة المقهى البيروتي بتمامها زياد الرحباني.

العدد 1140 - 22/01/2025