الشيخ محمد عبده وسلطة الحاكم

يُعد محمد عبده (1849- 1905) واحداً من أهم رجالات الإصلاح والنهضة، إن لم يكن أهمهم، من حيث امتلاك الإرث الإسلامي وامتلاك المشروع النقدي له على حد من التوازي والتلازم، وأما الإصلاح والنهضة فمقولتان متلازمتان، لا تكاد واحدة منهما تفارق الأخرى. فلا يمكن لأي نهضة أن تقفز في الخيال، فالإصلاح الديني يسبق مشروع الانبعاث، وتجربة مارتن لوثر (1483- 1526) شاهد تاريخي على تأسيس النهضة الأوربية في رحم الإصلاح الكنسي، عندما أعلن الاعتراض على سلطة البابا والغفرانات والتبتُّل وإكرام القديسيين والمطهر والقداس (1517)، وقد تجرأ على التوراة فنقله إلى الألمانية، وكانت ترجمته حدثاً كبيراً فارقاً على المستويين: الأدبي والديني.
الشيخ محمد عبده -على قصر الحياة التي عاشها- ذو سيرة علمية حافلة، وتكاد تلك السيرة تذكرنا بمقولة أبي تمام وهو يرثي أحد رجال عصره:
توفيَتِ الآمالُ بعدَ محمدٍ
وأصبحَ في شُغْلٍ عن السَفَرِ السَّفْرُ
عليكَ سلامُ الِله وقفاً فإنني
رأيتُ الكريمَ الحرَّ ليسَ له عُمْرُ
ومن مفردات السيرة الذاتية للشيخ عبده الأهم حفظه القرآن في الطور الباكر من حياته، وذاك الحفظ استدعى إليه معرفة الفقهين: الديني واللغوي. انتسب إلى الأزهر أهم مؤسسة مصرية حتى الآن منذ تأسيسها (970م- 359 ه) انتساباً واعياً، فلم ينتظم في المؤسسة الأزهرية انتظاماً هارمونياً، إنما انتظم انتظام (اللامنتمي). فقد أبدى رغبته في معرفة العلوم العقلية، بعد أن اكتشف قصور العلم الديني عن معرفة السياسة والحقوق السياسية للأفراد والأمم.
والمفردة التالية كانت ملازمته لجمال الدين الأفغاني (1838- 1897م) وأفاد من مشروعه وهو (الوحدة الإسلامية)، ثم التقيا في فرنسا، حيث أصدرا معاً صحيفة (العروة الوثقى). وكان من الطبيعي أن يتجاوز الشيخ عبده أستاذه الأفغاني، فالأفغاني ظل حبيس العالم الإسلامي، وظل رهين فكرة (الاكتفاء)، والاكتفاء تعني انقطاع العالم الإسلامي عن العوالم الأخرى بما لديها من علوم.
وفي عام 1878 حصل الشيخ عبده على (الشهادة العالمية) فحقق عنواناً جديداً في سيرته المتلاحقة: فدرّس علوم اللغة والسياسة في دار العلوم المصرية، وفي الوقت نفسه رأس تحرير (الوقائع المصرية).
وكانت الخطوة الجديدة له مشاركته في الثورة العرابية (1880- 1882م) التي قمعها الإنجليز بوحشية. وقد نُفي عرابي إثرها خارج مصر، ونُفي معه الشيخ عبده، لكنه اختار الديار السورية وطناً جديداً. وفي سورية كتب (رسالة التوحيد). وقد حاول أن يجمع العوالم الإسلامية ضد المستعمر الإنجليزي. والغريب أن شاعراً كأحمد شوقي وقف ضد الثورة العرابية، وقام بهجاء قائد الثورة أحمد عرابي فقال:
صغارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ
أهذا كلُّ شأنكَ يا عُرابي
عفا عنكَ الأباعدُ والأداني
فمن يعفو عن الوطنِ المصابِ
والقصيدة نشرت في 15 حزيران 1901 في المجلة المصرية.
واللافت غير المستغرب انضمام مؤلف وداعية إصلاحي كالشيخ الإمام كما كان يُسمَّى حينذاك.
وفي إثر عودته إلى مصر عُيِّن مفتياً للديار المصرية وأستاذاً في الأزهر، مُجرِّباً الإصلاح من الداخل، متخذاً من إدخال العلوم الحديثة (الفلسفة، التجريب، النقد) إلى منهاج الأزهر منهجاً متوارياً. ومن أهم آثاره، شرح نهج البلاغة، شرح مقامات بديع الزمان، رسالة العلم والمدنية في الإسلام والنصرانية، إضافة إلى رسالة التوحيد… وكان منهجه التوفيق بين (الذِّكْر الحكيم وبين العقل والفلسفة)، مستحضراً إلى العصر ابن رشد محاولاً إصلاح أساليب العربية. على أن العربية هي الحامل التاريخي والراهن للنهضة والإصلاح. ولعل حق الحكومة وحق الشعب جوهر مقالات الشيخ الإمام كما أسماه جامع أعماله الشيخ رشيد رضا، مطلقاً عليها (تاريخ الأستاذ الإمام).
وتحت عنوان: الأمة وسلطة الحاكم المستبد، كتب الشيخ عبده يقول:
(إن الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد، ولا تُستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعةٌ لحاكم واحد، إرادته قانون ومشيئته نظام، فتلك أمة تثبت على حال واحد ولا ينضبط لها سير. فتعتورها السعادة والشقاء، ويتداولها الفقر والغنى، ويتبادل عليها العلم والجهل، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض لها تابع لحال الحاكم).
ما من شك في أن مصادر الرأي الذي يعرض له النص السابق متعددة، وأهمها سلطة الخلافة المركزية في الشام وبغداد، فالتاريخ السياسي في الإسلامين: الأموي والعباسي حافل ب (واحدية) الرأي، وبالاستتباع الاستبداد الفردي، ولعل مدرسة (الرأي الفردي) تشكلت في إثر مجاورة النبي ربَّه، وكان المسوغ هو قضية (الاستخلاف). فقد أعلن عمر بن الخطاب كما يروي الطبري في (مصنفه) الأشهر: رفضه إشراك (الخزرج- الأنصار) في (الرأي والسلطة). ورداً عليه أعلن الحُباب بن المنذر الدعوة لإجلاء (الدخلاء)، وكان يقصد المهاجرين من قريش. وقال: (لابدَّ من إعادة المعارك القبلية… أنا جُذيْلها المحكك وعُذيْقها المرجّب، لئن شئتم لنعيدنها جَذَعَة. فقال عمر: إذاً يقتلك الله. فقال الحباب: بل إياك يقتل. والرأيان الفرديان السابقان اللذان أزاحا المؤاخاة بين الهاجرين والأنصار التي قام بها النبي، يُعيدان الحياة السياسية إلى ما قبل (المبعث). والاستعادة أُحدثت بصيغة ميكانيكية فجة، ظهر فيها الرأي الفردي مُقْصياً الإحساس بالمجتمع العام، وملغياً للوحدة النفسية والعقيدية في العهد الإسلامي الباكر. وهنا نواجه حالة غريبة، وهي الإقرار بالوضعية الجديدة (الإسلام) والإصرار على نفيها، ويبدو النفي ضرورة  عندما يتعارض مع الرأي السياسي.
وإذا كان الشيخ عبده قد أثار ثنائية (الفقر) و(الغنى)، وإشكالية ارتباطهما بمركزية الحاكم المتفرد برأيه، فلأن تاريخ المسألة نشأ مع ثنائية الخلافة والثروة في مرحلة عثمان (حكم… 644- 655 عندما تضايف الطرفان تضايفاً اختناقياً. وقد انبثق عن الاختناق سؤال جوهري مؤداه: هل الاستخلاف أمر إلهي أم إرادة بشرية؟ ثم تزايدت الاستفزازات السلطوية المنبثقة عن (الخليفة) ل (السواد الاجتماعي)، إذ تركزت الثروة في مجملها في أيدي (النخبتين): الدينية والسياسية، ليتم إقصاء المجتمع من الفعل السياسي وعن الحق في العدل الاجتماعي. وقد أفصح عثمان بن عفان، موجهاً كلامه إلى النخبة المناوئة، عن حقه الجديد في استملاك الثروة قائلاً: (ما أراني إذاً في شيء إن كنت أستعمل مَنْ هويتمُ… ولم أكن لأخلع سربالاً سربلنيه الله) والرواية هذه مدونه عند الطبري في ج4- ص 245.
وفي العهد الأموي أفصح الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95 ه- 714 م) عن الاستبداد السياسي في الإنابة عن الخلافة التي أنابت نفسهاعن المجتمع، في مواجهته لذهنية (الاعتراض) بذهنية الاستبداد. وخطبته معروفة بعد (دير الجماجم) إذ وضع مجتمعات العراق في كفة واحدة: (وبراءة الله منكم، ونكوص وليِّكم عنكم، إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، لا يَسأل المرء عن أخيه، ولا يُلوي الشيخ على بنيه، يوم دير الجماجم به كانت المعارك… يا أهل العراق ألم تنهكم المواعظ…؟ يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء…) ج 2- ص 140 البيان والتبيين. لا يعرف المستبد الاعتدال بالرأي، فإما عدو نهائي وإما حليف تابع.
وفي مقالة الشيخ عبده موقف لافت، وهو ارتباط الحاكم بمشكلة المعرفة، يقول: (وإن كان حاكمها جاهلاً سيئ الطبع، شرهاً مغتلماً (منقاداً للشهوات) جباناً، ضعيف الرأي، أحمق الجنان، خسيس النفس، معوج الطبيعة، أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران وضرب على نواظرها غشاوات الجهل، وجلب عليهما غائلة الفاقة والفقر، وجار في سلطته عن جادة العدل، وفتح أبواباً للعدوان، فيتغلب القوي على حقوق الضعيف، ويختل النظام، وتفسد الأخلاق، وتخفق الكلمة، ويغلب اليأس، فتمتد إليها أنظار الطامعين، وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة. فإن كان في الأمة رمق من الحياة اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة قبل أن تنشر الرياح بذورها السامة في جميع الأمة…).
وكغيره من دعاة الإصلاح وبُناة النهضة يدعو إلى فك الارتباط بين السلطة المستبدة والمجتمع، وقبل ذلك يربطها بالحماقة أو بالجهل. ويذكرنا في هذا بآراء عبد الرحمن الكواكبي… وكلاهما من مدرسة واحدة، لكن الشيخ عبده لم يُعفِ المجتمع (الرعية) من مسؤولياته. ومن يتابع متون النهضة لا بد مدرك معنا أن المخيلة الفكرية تتجه بالإجمال إلى الدولة العثمانية. وحتى نهضويو مصر، على الرغم من خروج مصر من ربقه العثمانيين ،1798 إلا أن الظلامية العثمانية باتت مشكلة بما نجم عنها. ومما هو لافت استحضار (النخبة) في حديث الشيخ عبده الذي أفصح عنها بتعبيره الخاص (أهل الرأي). وأهل الرأي في المتن النهضوي نقيض مدرسة (الرأي) الذي عرضنا له في موقع التنازع على (الاستخلاف) من حيث شرعيتيه: الاجتماعية والسياسية. فالشيخ عبده يدرك أهمية النخبة العلمية (دينياً- سياسياً) في إعادة صياغة البنية الاجتماعية على قاعدة الفصل بين (الدين) المستملَك من الحاكم المستبد كغطاء أيديولوجي، وبين أسس المجتمع الحديث الذي لم يعد يقبل بإزاحته عن شرطه التاريخي الذي ينص على الحقوق السياسية والمدنية، كما نصت بذلك أيضاً النصوص الدينية عند قراءتها قراءة خارج السلطة الفقهية أو خارج الآداب السلطانية.
ثم يختتم الشيخ عبده مقالته: (وإن انحطت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم يصرفها كيف يصرفها، فأنذرها بمضض العبودية، وعناء الذلة، ووصمة العار بين الأمم جزاء ما فرَّطوا في أمورهم، وما ربك بظلام للعبيد).
فلو كان الشيخ عبده حياً الآن، وهو حي بشكل آخر، ووجد قادة الأمصار العربية الأميين منهم بالمعنى المباشر، والأميين بالمعنى الأعمق، ونعني غيابهم عن معرفة التحولات الابيستمولوجية والأيديولوجية في العالم المعاصر -لاكتشف دون ريب- أهميته التاريخية. ولعل الشاعر حافظ إبراهيم استشعر قيمة الرجل فرثاه صادقاً:
سلامٌ على الإسلامِ بعد محمدٍ
سلامٌ على أيامهِ النضراتِ
مددنا إلى الأعلامِ بعدكَ راحَنا
فرُدَّتْ إلى أعطافِنا صفراتِ
ومن نافل الأهمية هذه، تقدمه على المتون المعاصرة له من حيث وضعه للمجتمع أمام مسؤولياته، فلا حاكم يأتي من الفراغ أو الخيال، إنما قد تنزاح الأمة في طور تاريخي عن تاريخيتها، كما حدث عندما انتخب الشعب الألماني -بأصوات العامة والغوغاء الغالبة- هتلر، فدفع ثمن انزياحه. وكذلك حدث للشعب الروسي عندما اختار يلتسين الأحمق فحدث ما حدث. وكذلك يدفع الشعب المصري اليوم – وهو يرد على الاستبداد السابق- ثمن اختياره، لمستبد يستقوي بمرجعيتين متناقضتين: الشريعة من حيث هي قراءة سياسية، والنظام الرأسمالي العالمي وهو يحتضر… والاختيار الخاطئ ناتج عن غياب الاستراتيجية للأحزاب المعارضة.
إذاً للاختيار الديمقراطي أسس أخرى يبدو صندوق الاقتراع آخرها. رحم الله الشيخ محمد عبده الذي انطلق من رحم النصوص المغلقة ليكتشف الآفاق المفتوحة.

الشيخ محمد عبده وسلطة الحاكم

 

يُعد محمد عبده (1849- 1905) واحداً من أهم رجالات الإصلاح والنهضة، إن لم يكن أهمهم، من حيث امتلاك الإرث الإسلامي وامتلاك المشروع النقدي له على حد من التوازي والتلازم، وأما الإصلاح والنهضة فمقولتان متلازمتان، لا تكاد واحدة منهما تفارق الأخرى. فلا يمكن لأي نهضة أن تقفز في الخيال، فالإصلاح الديني يسبق مشروع الانبعاث، وتجربة مارتن لوثر (1483- 1526) شاهد تاريخي على تأسيس النهضة الأوربية في رحم الإصلاح الكنسي، عندما أعلن الاعتراض على سلطة البابا والغفرانات والتبتُّل وإكرام القديسيين والمطهر والقداس (1517)، وقد تجرأ على التوراة فنقله إلى الألمانية، وكانت ترجمته حدثاً كبيراً فارقاً على المستويين: الأدبي والديني.

الشيخ محمد عبده -على قصر الحياة التي عاشها- ذو سيرة علمية حافلة، وتكاد تلك السيرة تذكرنا بمقولة أبي تمام وهو يرثي أحد رجال عصره:

توفيَتِ الآمالُ بعدَ محمدٍ

وأصبحَ في شُغْلٍ عن السَفَرِ السَّفْرُ

عليكَ سلامُ الِله وقفاً فإنني

رأيتُ الكريمَ الحرَّ ليسَ له عُمْرُ

ومن مفردات السيرة الذاتية للشيخ عبده الأهم حفظه القرآن في الطور الباكر من حياته، وذاك الحفظ استدعى إليه معرفة الفقهين: الديني واللغوي. انتسب إلى الأزهر أهم مؤسسة مصرية حتى الآن منذ تأسيسها (970م- 359 ه) انتساباً واعياً، فلم ينتظم في المؤسسة الأزهرية انتظاماً هارمونياً، إنما انتظم انتظام (اللامنتمي). فقد أبدى رغبته في معرفة العلوم العقلية، بعد أن اكتشف قصور العلم الديني عن معرفة السياسة والحقوق السياسية للأفراد والأمم.

والمفردة التالية كانت ملازمته لجمال الدين الأفغاني (1838- 1897م) وأفاد من مشروعه وهو (الوحدة الإسلامية)، ثم التقيا في فرنسا، حيث أصدرا معاً صحيفة (العروة الوثقى). وكان من الطبيعي أن يتجاوز الشيخ عبده أستاذه الأفغاني، فالأفغاني ظل حبيس العالم الإسلامي، وظل رهين فكرة (الاكتفاء)، والاكتفاء تعني انقطاع العالم الإسلامي عن العوالم الأخرى بما لديها من علوم.

وفي عام 1878 حصل الشيخ عبده على (الشهادة العالمية) فحقق عنواناً جديداً في سيرته المتلاحقة: فدرّس علوم اللغة والسياسة في دار العلوم المصرية، وفي الوقت نفسه رأس تحرير (الوقائع المصرية).

وكانت الخطوة الجديدة له مشاركته في الثورة العرابية (1880- 1882م) التي قمعها الإنجليز بوحشية. وقد نُفي عرابي إثرها خارج مصر، ونُفي معه الشيخ عبده، لكنه اختار الديار السورية وطناً جديداً. وفي سورية كتب (رسالة التوحيد). وقد حاول أن يجمع العوالم الإسلامية ضد المستعمر الإنجليزي. والغريب أن شاعراً كأحمد شوقي وقف ضد الثورة العرابية، وقام بهجاء قائد الثورة أحمد عرابي فقال:

صغارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ

أهذا كلُّ شأنكَ يا عُرابي

عفا عنكَ الأباعدُ والأداني

فمن يعفو عن الوطنِ المصابِ

والقصيدة نشرت في 15 حزيران 1901 في المجلة المصرية.

واللافت غير المستغرب انضمام مؤلف وداعية إصلاحي كالشيخ الإمام كما كان يُسمَّى حينذاك.

وفي إثر عودته إلى مصر عُيِّن مفتياً للديار المصرية وأستاذاً في الأزهر، مُجرِّباً الإصلاح من الداخل، متخذاً من إدخال العلوم الحديثة (الفلسفة، التجريب، النقد) إلى منهاج الأزهر منهجاً متوارياً. ومن أهم آثاره، شرح نهج البلاغة، شرح مقامات بديع الزمان، رسالة العلم والمدنية في الإسلام والنصرانية، إضافة إلى رسالة التوحيد… وكان منهجه التوفيق بين (الذِّكْر الحكيم وبين العقل والفلسفة)، مستحضراً إلى العصر ابن رشد محاولاً إصلاح أساليب العربية. على أن العربية هي الحامل التاريخي والراهن للنهضة والإصلاح. ولعل حق الحكومة وحق الشعب جوهر مقالات الشيخ الإمام كما أسماه جامع أعماله الشيخ رشيد رضا، مطلقاً عليها (تاريخ الأستاذ الإمام).

وتحت عنوان: الأمة وسلطة الحاكم المستبد، كتب الشيخ عبده يقول:

(إن الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد، ولا تُستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعةٌ لحاكم واحد، إرادته قانون ومشيئته نظام، فتلك أمة تثبت على حال واحد ولا ينضبط لها سير. فتعتورها السعادة والشقاء، ويتداولها الفقر والغنى، ويتبادل عليها العلم والجهل، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض لها تابع لحال الحاكم).

ما من شك في أن مصادر الرأي الذي يعرض له النص السابق متعددة، وأهمها سلطة الخلافة المركزية في الشام وبغداد، فالتاريخ السياسي في الإسلامين: الأموي والعباسي حافل ب (واحدية) الرأي، وبالاستتباع الاستبداد الفردي، ولعل مدرسة (الرأي الفردي) تشكلت في إثر مجاورة النبي ربَّه، وكان المسوغ هو قضية (الاستخلاف). فقد أعلن عمر بن الخطاب كما يروي الطبري في (مصنفه) الأشهر: رفضه إشراك (الخزرج- الأنصار) في (الرأي والسلطة). ورداً عليه أعلن الحُباب بن المنذر الدعوة لإجلاء (الدخلاء)، وكان يقصد المهاجرين من قريش. وقال: (لابدَّ من إعادة المعارك القبلية… أنا جُذيْلها المحكك وعُذيْقها المرجّب، لئن شئتم لنعيدنها جَذَعَة. فقال عمر: إذاً يقتلك الله. فقال الحباب: بل إياك يقتل. والرأيان الفرديان السابقان اللذان أزاحا المؤاخاة بين الهاجرين والأنصار التي قام بها النبي، يُعيدان الحياة السياسية إلى ما قبل (المبعث). والاستعادة أُحدثت بصيغة ميكانيكية فجة، ظهر فيها الرأي الفردي مُقْصياً الإحساس بالمجتمع العام، وملغياً للوحدة النفسية والعقيدية في العهد الإسلامي الباكر. وهنا نواجه حالة غريبة، وهي الإقرار بالوضعية الجديدة (الإسلام) والإصرار على نفيها، ويبدو النفي ضرورة  عندما يتعارض مع الرأي السياسي.

وإذا كان الشيخ عبده قد أثار ثنائية (الفقر) و(الغنى)، وإشكالية ارتباطهما بمركزية الحاكم المتفرد برأيه، فلأن تاريخ المسألة نشأ مع ثنائية الخلافة والثروة في مرحلة عثمان (حكم… 644- 655 عندما تضايف الطرفان تضايفاً اختناقياً. وقد انبثق عن الاختناق سؤال جوهري مؤداه: هل الاستخلاف أمر إلهي أم إرادة بشرية؟ ثم تزايدت الاستفزازات السلطوية المنبثقة عن (الخليفة) ل (السواد الاجتماعي)، إذ تركزت الثروة في مجملها في أيدي (النخبتين): الدينية والسياسية، ليتم إقصاء المجتمع من الفعل السياسي وعن الحق في العدل الاجتماعي. وقد أفصح عثمان بن عفان، موجهاً كلامه إلى النخبة المناوئة، عن حقه الجديد في استملاك الثروة قائلاً: (ما أراني إذاً في شيء إن كنت أستعمل مَنْ هويتمُ… ولم أكن لأخلع سربالاً سربلنيه الله) والرواية هذه مدونه عند الطبري في ج4- ص 245.

وفي العهد الأموي أفصح الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95 ه- 714 م) عن الاستبداد السياسي في الإنابة عن الخلافة التي أنابت نفسهاعن المجتمع، في مواجهته لذهنية (الاعتراض) بذهنية الاستبداد. وخطبته معروفة بعد (دير الجماجم) إذ وضع مجتمعات العراق في كفة واحدة: (وبراءة الله منكم، ونكوص وليِّكم عنكم، إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، لا يَسأل المرء عن أخيه، ولا يُلوي الشيخ على بنيه، يوم دير الجماجم به كانت المعارك… يا أهل العراق ألم تنهكم المواعظ…؟ يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء…) ج 2- ص 140 البيان والتبيين. لا يعرف المستبد الاعتدال بالرأي، فإما عدو نهائي وإما حليف تابع.

وفي مقالة الشيخ عبده موقف لافت، وهو ارتباط الحاكم بمشكلة المعرفة، يقول: (وإن كان حاكمها جاهلاً سيئ الطبع، شرهاً مغتلماً (منقاداً للشهوات) جباناً، ضعيف الرأي، أحمق الجنان، خسيس النفس، معوج الطبيعة، أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران وضرب على نواظرها غشاوات الجهل، وجلب عليهما غائلة الفاقة والفقر، وجار في سلطته عن جادة العدل، وفتح أبواباً للعدوان، فيتغلب القوي على حقوق الضعيف، ويختل النظام، وتفسد الأخلاق، وتخفق الكلمة، ويغلب اليأس، فتمتد إليها أنظار الطامعين، وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة. فإن كان في الأمة رمق من الحياة اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة قبل أن تنشر الرياح بذورها السامة في جميع الأمة…).

وكغيره من دعاة الإصلاح وبُناة النهضة يدعو إلى فك الارتباط بين السلطة المستبدة والمجتمع، وقبل ذلك يربطها بالحماقة أو بالجهل. ويذكرنا في هذا بآراء عبد الرحمن الكواكبي… وكلاهما من مدرسة واحدة، لكن الشيخ عبده لم يُعفِ المجتمع (الرعية) من مسؤولياته. ومن يتابع متون النهضة لا بد مدرك معنا أن المخيلة الفكرية تتجه بالإجمال إلى الدولة العثمانية. وحتى نهضويو مصر، على الرغم من خروج مصر من ربقه العثمانيين ،1798 إلا أن الظلامية العثمانية باتت مشكلة بما نجم عنها. ومما هو لافت استحضار (النخبة) في حديث الشيخ عبده الذي أفصح عنها بتعبيره الخاص (أهل الرأي). وأهل الرأي في المتن النهضوي نقيض مدرسة (الرأي) الذي عرضنا له في موقع التنازع على (الاستخلاف) من حيث شرعيتيه: الاجتماعية والسياسية. فالشيخ عبده يدرك أهمية النخبة العلمية (دينياً- سياسياً) في إعادة صياغة البنية الاجتماعية على قاعدة الفصل بين (الدين) المستملَك من الحاكم المستبد كغطاء أيديولوجي، وبين أسس المجتمع الحديث الذي لم يعد يقبل بإزاحته عن شرطه التاريخي الذي ينص على الحقوق السياسية والمدنية، كما نصت بذلك أيضاً النصوص الدينية عند قراءتها قراءة خارج السلطة الفقهية أو خارج الآداب السلطانية.

ثم يختتم الشيخ عبده مقالته: (وإن انحطت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم يصرفها كيف يصرفها، فأنذرها بمضض العبودية، وعناء الذلة، ووصمة العار بين الأمم جزاء ما فرَّطوا في أمورهم، وما ربك بظلام للعبيد).

فلو كان الشيخ عبده حياً الآن، وهو حي بشكل آخر، ووجد قادة الأمصار العربية الأميين منهم بالمعنى المباشر، والأميين بالمعنى الأعمق، ونعني غيابهم عن معرفة التحولات الابيستمولوجية والأيديولوجية في العالم المعاصر -لاكتشف دون ريب- أهميته التاريخية. ولعل الشاعر حافظ إبراهيم استشعر قيمة الرجل فرثاه صادقاً:

سلامٌ على الإسلامِ بعد محمدٍ

سلامٌ على أيامهِ النضراتِ

مددنا إلى الأعلامِ بعدكَ راحَنا

فرُدَّتْ إلى أعطافِنا صفراتِ

ومن نافل الأهمية هذه، تقدمه على المتون المعاصرة له من حيث وضعه للمجتمع أمام مسؤولياته، فلا حاكم يأتي من الفراغ أو الخيال، إنما قد تنزاح الأمة في طور تاريخي عن تاريخيتها، كما حدث عندما انتخب الشعب الألماني -بأصوات العامة والغوغاء الغالبة- هتلر، فدفع ثمن انزياحه. وكذلك حدث للشعب الروسي عندما اختار يلتسين الأحمق فحدث ما حدث. وكذلك يدفع الشعب المصري اليوم – وهو يرد على الاستبداد السابق- ثمن اختياره، لمستبد يستقوي بمرجعيتين متناقضتين: الشريعة من حيث هي قراءة سياسية، والنظام الرأسمالي العالمي وهو يحتضر… والاختيار الخاطئ ناتج عن غياب الاستراتيجية للأحزاب المعارضة.

إذاً للاختيار الديمقراطي أسس أخرى يبدو صندوق الاقتراع آخرها. رحم الله الشيخ محمد عبده الذي انطلق من رحم النصوص المغلقة ليكتشف الآفاق المفتوحة.

العدد 1140 - 22/01/2025