هيفاء بيطار تُعمل مشرطها في جسد التقاليد وتطلق قلمها على الحرملك

ماذا أفعل بهذا الجسد الشبق اللين… آه رائحة الأنوثة قوية وفواحة كرائحة القرنفل، مَنْ يتنشقها ويتنسمها، القرنفلة البرية مرهقة بأريجها تستغيث، تستنجد، بعابر سبيل يتنشقها بعمق، تلامس أصابعه أوراقها، يهزها، يقطفها، يعتصر أوراقها، يشبع أنوثتها، تُرى أليس هناك مَنْ يعشق رائحة القرنفل؟! بالنداء السابق، العاري والضاري والصارخ والصريح، الذي تعرض وتستعرض فيه الطالبة الجامعية (خلود) حالها جسداً وروحاً، وهي تجلس على مقعدها في آخر صف من مدرج كلية الآداب – قسم الأدب الإنكليزي بدمشق. بذلك النداء تضعنا الأديبة الطبيبة (هيفاء بيطار) على أعتاب روايتها (قبو العباسيين) الطبعة الثانية، الصادرة عن دار السوسن – دمشق عام 2006.

 

جسد الكتابة

في روايتها الآنفة الذكر، الحاملة رقم (8) في رواياتها والمنشورة بعد (يوميات مطلّقة.. أفراح صغيرة أفراح أخيرة.. نسر بجناح وحيد.. امرأة من طابقين.. أيقونة بلا وجه.. أبواب مواربة.. امرأة من هذا العصر) ورقم (16) في إصداراتها الروا/قصصية. تفوح رائحة النضج الفني والحوزة المعرفية من جسد الكاتبة. مثلما تفوح رائحة الأنوثة قوية فواحة من جسد بطلة الرواية (خلود).

من الواضح المستجلى من الرواية، بداية، سيرورة، ونهاية، أن الكاتبة قد تمكنت من موضوعها وغايتها أساساً: الموضوع الذي على الأغلب عاينته شخصياً، بتجاربها في الحياة المعيشة، الدراسية منها والمهنية والمجتمعية. والغاية التي يهدف إليها خطابها الفني، الذي توسلته، بالجملة الواثقة القصيرة والمستقيمة، وبالسرد المباشر النابض بضمير (الأنا) حيناً، والآخر المفعم بحرية البوح بوساطة ضمير (الهو) حيناً آخر.

 

خلوة عشاق

للحظة بعد قراءة الرواية، التي لا تتجاوز صفحاتها 118 صفحة من القطع الوسط. ولا تربو مساحة مسرح أحداثها، على قبو مؤلف من غرفتين و(منتفعاتهما).. قبو نترفه لو نعتناه بالمتواضع.. للحظة قد يتساءل القارئ مع نفسه، مثلما تساءلتُ: تُرى بِمَ عسانا أن نصف ذلك القبو؟

ب (ملاذ الغلابة) حسبما تفصح عنه الرواية. (ص 51):

كان باب القبو يشبه أبواب الأكواخ الخشبية، عتيقاً مشققاً… دخلت لا ترى شيئاً… بعد برهة ميّزت المكان، كانت شمعة صغيرة موضوعة على أرض عارية من البلاط، أمكنها أن تميز شبه مطبخ، مجلى عتيق من حجر بني تحتفره فجوات كثيرة من القِدم والاستعمال، حمالة صحون، براد قديم لمحركه صوت عالٍ مزعج، الجدران عارية من الدهان، غاز من رأسين… غرفة صغيرة تضيئها شمعة وليس فيها إلاّ طاقة صغيرة بمساحة وجه إنسان مستورة بقطعة نايلون متسخة ثم فرشة وحيدة على الأرض مع وسادتين ومكتبة عبارة عن ألواح خشب. وفي الزاوية مسجلة كبيرة موضوعة على الأرض…؟

أم الأصحّ لو وصفناه ب (خلوة عشاق) ما يوحي به المقطع التالي من الصفحة 77:

قامت تعد العجينة لنزع الأشعار الرقيقة عن ساقيها. يجب أن تخلبه بجسدها، بطراوته ونعومته، أخيراً سيتم لها ما أرادت.. وها هو ذا قبو العباسيين يغريها أن تغور إلى باطنه لتكتشف المحرمات، وتتحدى مشرّعي قوانين الشرف والمدافعين المنافقين عن العذرية.

 

حرام.. وحرام

إذا كانت الحياة الجامعية وما يعتورها من مشاكل تمتاز بها هذه المرحلة التأسيسية من عمر الطلبة والطالبات، هي النهر الكبير الذي يروي رواية (قبو العباسيين) فقد احتضنت حقول الرواية وحواكيرها، غير ساقية وجدول ترفد ذلك النهر، كالفقر والكبت والقهر واختلاف المصالح والمفاهيم وتناقضها أحياناً، بين مجتمع وآخر.. وحتى بين طبقة وأخرى وإنسان وآخر في المجتمع الواحد. فها هو ذا (هوليداي) الألماني الذي تتعلم خلود، على يديه، اللغة الألمانية في معهد غوته بدمشق، وعلى سريره، تعاطي الجنس على الطريقة الغربية في شقته، في دمشق أيضاً. ها هو ذا يفهم الحلال والحرام على غير ما تفهمه طالبته:

وحين رجته أن يحترم عذريتها، ضحك وهو يقول: أعرف، فأنت شرقية.. ولكن هذا السلوك حرام.

سألت مستغربة: حرام.

قال: نعم فالعلاقات الناقصة تورث عللاً نفسية، ص 101.

 

جرعة انتقاد

في المجتمعات الغربية كثيراً ما يفضل الرجل الاقتران بمن تنطوي على تجربة وخبرة جنسية غنية، الأمر الذي يعود عليه بفائق من اللذة والمتعة في أحضانها. في الوقت الذي يريد فيه الرجال عندنا أن تكون الزوجة (عذراء شريفة طاهرة، لم يقبل فمها إلاّ أُمها. ثم يطلبون إليها بعد الزواج أن تمتلك خبرة العاهرات في الإثارة)! ص28.

ثمة جرأة عالية في طرح المواضيع الحميمة، ضمّنتها (بيطار) (ككاتبة/ امرأة) كتابها وثمة جرعة انتقادية قوية استبطنتها (بيطار) (ككاتبة/ طبيبة) روايتها. جرأة وجرعة، تتوسلان شفاء الرجل الشرقي من ازدواجيته في غير مجال وعلى أكثر من صعيد، لاسيما فيما يتعلق بالجانب الجنسي من حياته.

 

لوحة السرد

إلى السعادة والإفادة التي جنتها قراءتي لرواية (قبو العباسيين) أراني أُغالب بعض أسفٍ. كوني لم أطّلع على كل أو أقلّه بعض أعمال هيفاء بيطار السابقة. لاسيما أن الكاتبة تُعدُّ من صاحبات الأقلام النسوية الناشطة، التي ساهمت في تشكيل لوحة السرد السوري، في العقدين الماضيين.

العدد 1140 - 22/01/2025