المعارك النقدية

المعارك النقدية، على الورق في الصحافة وعلى الشاشات وفي الندوات وعلى المنابر، تشبه المعارك الحربية في ميادين القتال بين طرفين أو أكثر..! وهي فنّ من أصعب الفنون وأعقدها، تقوم أو تتأسس على ركائز منها: اتساع الصدر والمدارك والثقافة والتأنّي في الحوار، وأن يبدأ المقاتلون معاركهم بالأقلام الحرة وطلقات الحبر بدلاً من الرصاص وبالحكمة والحلم والشفافية.

السؤال: هل المعارك النقدية قبل عقود كانت (الدينمو) والمحرك الثقافي في الساحات الثقافية العربية وخاصة المصرية؟

تحتاج الإجابة إلى العودة نحو قرن من الزمن وإعادة قراءة ما كان يجري من حوارات ساخنة تشبه العواصف أحياناً، وفي أحايين أخرى تكون معطَّرة بالردود المركَّزة بعيداً عن التجريح والشخصنة،  ولا تهدأ إلاَّ عندما يفرّغ أصحابها ما في ذاكراتهم من توليفات وتحضيرات وأجوبة يمكن أن تكون رادعة ومحمّلة بالتهكّم، وقد يصل منسوب الضحك فيها إلى أعلى درجات الانشراح.

ومثل هذه الحالات التي كان كبار الأدباء والنقاد يحتفون بها ليس لها مثيلاً، في هذا الزمن الباكي والحزين بدموعه المملحة بالكذب، وهي من كثرة ملوحتها تخرّش الخدود وتزعزع الود وتفكك أواصر الثقة التي تأسست على قاعدة الحب في يوم ما..!

ومن أشهر المعارك الطاحنة بين طه حسين ومصطفى صادق الرافعي، التي ما يزال غبارها النقدي يثير زوابع أدبية وتشكل صفحات هامة من تاريخ الأدب العربي. وما جرى عام 1912يبين ذلك، فكتب طه حسين وهو لا يزال طالباً مقالاً ينتقد فيه كتاب الرافعي (تاريخ الأدب العربي)، لكنه في كتابه (في الشعر الجاهلي) أثنى على هذا الكتاب. وفي عام 1913 نشر حافظ إبراهيم قصيدة في جريدة (الجريدة) يمدح فيها كتاب الرافعي (حديث القمر). وكتب طه حسين أيضاً مقالاً بتاريخ 7 كانون الثاني 1913 بعنوان (حافظ إبراهيم وحديث القمر أمدح أم هجاء..!؟)، حوَّل معاني القصيدة إلى الذم والقدح .. واستمرت المعركة أياماً.

وعندما أصدر الرافعي كتاباً آخر بعنوان (رسائل الأحزان)، استقبله طه حسين بالنقد اللاذع وقال: إن كل جملة من  جمل الكتاب تبعث في نفسي شعوراً قوياً مؤلماً، وأن الكاتب يلدها ولادة  وهو يقاسي من هذه الولادة ما تقاسي الأم من آلام الوضع..!

وقبل عقود حينما صدر لطه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية والثقافية، وما يزال يقرأ حتى اليوم وغداً بشهية ويطبع من جديد بطبعات عدة لما يثيره من أسئلة، وجد الرافعي حينذاك فرصة سانحة لتصفية الحساب مع طه حسين، فهاجمه بعنف بالغ مع سخرية وتهكّم في سلسلة من المقالات زادت عن عشرين مقالة جمعها بعد ذلك في كتاب بعنوان (تحت راية القرآن).

وجاء في تاريخ المعارك النقدية وما رافقها من ضجيج وصخب وتأويل وتحريك، أن الأحداث التي تطورت بسرعة يمكن أن تؤدي إلى التصدَّع في قواعد هذه العلاقات بين  طه حسين وعباس محمود العقاد. ومن الحوادث الطريفة في عام 1934  ظهرت بوضوح  في الاحتفال المهيب الذي أقيم لمبايعة العقاد أميراً للشعراء مثلما حدث مع أحمد شوقي عام 1927  فعبَّر طه حسين عن رأيه وقال: لا أؤمن في هذا العصر بشاعر عربي كما أؤمن بالعقاد .. وأجد عند العقاد ما لا أجد عند غيره من الشعراء  لأنه يصور لي المثل الأعلى في الشعر.

وفي عام 1973 ألقى نزار قباني قصيدة في حفل أقيم لتكريم طه حسين بعنوان (حوار ثوري مع طه حسين)، وهي إحدى روائعه الشعرية.. وهذه بعض أبيات منها:

ضوء عينيك أم هما نجمتان

كلهم لا يرى وأنت تراني

كتب العشق يا حبيبي علينا

فهو أبكاك مثلما أبكاني

عمر جرحي مليون عام وعام

هل ترى الجرح من خلال الدخان

نقش الحب في دفاتر قلبي

كل أسمائه وما سمّاني

قال لا بدَّ أن تموت شهيداً

مثل كل العشاق! قلت: عساني!

أنت أرضعتنا حليب التحدّي

فطحنّا النجوم بالأسنان

واقتلعنا جلودنا بيدينا

وفككنا حجارة الأكوان

العدد 1140 - 22/01/2025