القصيدة وطفولة الأشياء

تظل القصيدة حية ودافئة في وجدان الشاعر، مادام الشاعر يحسّ أن في أعماقه طفولة تكتب، وتشاغب، وتحرك الأشياء باتجاه العطاء. وشباب الشعر، لا يجعل العمر مأساة، أو نهاية للشاعر الذي ظل يحمل في داخله روح العطاء، ونقاوة المضمون، والتوثب الدائم للكتابة، هذه الأشياء الحميمية تفتح في الداخل المتوهج نوافذ غاية في الأهمية والحيوية، ليطل الشاعر منها على جهات النور، والضوء الذي لا يحدد مكامن ومَواقع الرؤية في الجهات التي يتجه النور إليها للدلالة على بؤر العطاء فيها. بل يترك المجال مفتوحاً أمام خيال عرف الطريق الذي عليه أن يسلكه في إبداعه، والجهات التي عليه أن يقتحمها، تلك الجهات الغاصة بالممكنات الجميلة وذات الإبداعية المتميزة.

 الشاعر المبدع يخرج تماماً عن إطار المحددات التي تصبح كشراك العنكبوت التي تأسر قدرة المبدع على الانطلاق، واقتحام المستحيل، لإضافة إضاءة جديدة للقصيدة، أو المشهد الشعري.. هناك شعراء آخرون يقعون تحت سطوة شيخوخة الروح، وسطوة الشعر، تخرج الطفولة من أعماقهم، يتحسسون تماماً من لحظة تمر عليهم، فيشعرون أنهم كبروا دهراً، وشاخوا قسراً، ومالواميل الواقف على حالمة الأشياء. إنه لا ينظر إلى الناحية الأخرى، ناحية النجاة، والقعود خطوة واحدة باتجاه الأمل، وذروة الأعالي التي يكمن فيها سر التجدد، والعطاء الرائع، وبهاء الأشياء. ولكنه ينظر باتجاه الناحية المائلة جداً نحو السقوط والهاوية، لذا سرعان ما يسقط وينتهي، ويهوي في قاع العتمة والشيخوخة والتلاشي المريع.

 أروع ما فينا تلك الطفولة الخالدة التي تتحرك في أعماقنا الدائمة الحيوية، والاستمرارية، وتدفق الحياة.. الطفولة التي لا تشيخ، ولا تكبر، ولا تهرم، ولا تموت.. الطفولة التي تنسج فضاءً للشاعر لا تغيب عنه شمس الكلمة، ولا تهرم فيه الأشياء، ولا تخبو فيه حرارة النبضة، والقصيدة، والروح.. ونظل مع روح الحقيقة المتوهجة القائلة: يهبط الشعر على الروح.. كما يهبط الندى على الأعشاب، فالندى روح حياة الأرض والورد والشعب والكائنات، والشعر روح حياة الوجدان، والأعماق، والصدور، والخلائق ذات الأمزجة الشفافة المتوهجة، إن غبطة الأشياء أن ترانا دائمي التوهج، والنقاء، والعذوبة..، إنها تستمتع جداً حين ترانا، وهي تلتصق بنبضات قلوبنا، بروعة تلك النبضات، وهي تكمن، كي تتفجر وتتوهج بعد ذلك بالعطاء العظيم.

 إن قلة نادرة من الشعراء المجيدين تظل تملك مفاتيح الشعر، كما تملك الينابيع مفاتيح الأغنيات، والسماوات مفاتيح الضياء، والجهات مفاتيح الريح.. هذه القلة النادرة من الشعراء المجيدين تكبر خطوة في العمر، وتكبر خطوات في الشعر، ويزداد تألقها في القصيدة، كلما احتكت بالحياة أكثر، وكلما صقلت تجربتها في الكتابة، وكلما توهجت طفولتها أكثر في أعماقها.

 لكن الغالبية العظمى من الذين يمارسون كتابة أي كلام.. إلا الشعر.. قد شاخت  قبل أن تصب مرحلة الشباب، وهرمت قبل أوانها، لأنها لا تحمل في أعماقها نقاوة الطفولة الصاخبة، وحلاوة أبجدية اللغة الأنثى التي تغيب في النائيات الصعبة، والغائبة، والبهية بهاء ا لمستحيل، والغامض الغائب. تلك الأبجدية /اللغة/ الأنثى الفاتنة/ خارقة البهاء، لا تأتي إلينا.. بل يقصد ملكوتها الأعلى أولئك الذين يتلذذون بمتعة البحث عن مستحيل الشعر الخارق، ورونق القصيدة الغائبة/ الحاضرة بنكهة فتنتها التي تمسنا ريحها، حتى نتبع الريح إليها.

 نحن بحاجة إلى طفولة دائمة التوهج والفتنة والبهاء.. نحن بحاجة إلى تلك الطفولة.. نختار ركناً قصياً في حديقة الذات، ثم نعتكف بطفولتنا في محراب التفكر، والصمت الصوفي الحاد حرارة، وغياباً، وسفراً في النائيات المدهشة، وبين رفة العين، وانتباهتها، نكون قد اخترقنا هذا العالم إلى فلك اللذة والشعر والطفولة النائية جمالاً وعطاءً وتفكراً.؟. إنها بستان الأفكار الذي يمنحنا حين نغوص فيه بصوفيتنا الغامضة الحادة جمال وبهاء قصيدة لم تأتِ بعد.. ولكنها حتماً ستأتي.. عندما نكتشف أننا قبضنا على مفاتيح فتنتها وأسرارها بحميمية الأفكار التي ضجت حتى وصلت إليها.. عندذاك سنكون قد بلغنا المقصد في ملكوت الشعر.

العدد 1140 - 22/01/2025