إلى الجحيم بالتدريج

آه يا أسمر اللون، وللسمراء في التراث الثقافي لهذه البلاد التي تلفحها الشمس معظم أيام السنة حضور كثيف وجميل، وللأسمر أيضاً..

الأرض هنا سمراء، وجباه الرجال، ووجوه الحاصدات..

لكننا هنا بصدد السمار الذي غلّف خبز الناس بعد أن تعودوا على الخبز الأبيض..

فجأة صارت الأفران تنتج خبزاً أسمر سريع التفتت، ولا يتحمل إلا يوماً أو بعض يوم ليصبح غير صالح للاستهلاك البشري، ثم هطلت ذرائع الوزراء ومعاونيهم ومعاوني معاونيهم والمطبلين والمزمرين والمبررين لهم.

تارة هي خميرة فاسدة جاءت إلينا على حين غرة، والحقيقة أن هناك خميرة فاسدة فعلاً، لكن ليس في العجين الذي تعجنه الأيدي نفسها والآلات نفسها، إنما في أنفسهم وأرواحهم..

وتارة أخرى تعاد الذريعة نفسها التي رفعوا بها أسعار المازوت والبنزين والغاز: وقف التهريب إلى البلدان المجاورة..

يروي المعمرون أن الناس في (السفربرلك)، أيام الحرب الكونية الأولى، التي جر رجل مريض أيضاً هذه البلاد إلى محرقتها، فقدوا الزاد، وصار الخبز المصنوع من طحين القمح ترفاً لا يطوله إلا المنعمون والأغنياء، فيما كان عوام الناس يعيشون على خبز الشعير، أما المعدمون فكانوا يلحقون الدواب صباحا كي يخرجوا من روثها حبات الشعير، ثم يقومون بغسلها وطحنها وخبزها حتى يقوا أنفسهم وأطفالهم غائلة الجوع، فيما الغلال تُسرق إلى جبهات حرب كهذه الحرب تماماً، لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

هذا ما حصل في تلك المحرقة.

الآن تدور محرقة العصر على أرض سورية وبأياد سورية، والمجاعة تدق أبوابنا بقوة إن لم توقف الكارثة، ألم يقل (وزير القمح) إن الناس وصلوا إلى حد الفقر، لكنهم لم يصلوا بعد إلى حد الجوع؟

ومن ذاكرتي القريبة أننا- في أواخر سبعينيات القرن الفائت – كنا نشتري الكيلوغرام من الخبز الأسمر في بلدتنا الصغيرة بسبعة فرنكات (35 قرشاً سورياً)، ولم يكن قد جاء الخبز الأبيض بعد، ثم فجأة فتحوا مخبزاً جديداً ينتج خبزاً أبيض بأحد عشر فرنكاً (55 قرشاً) للكيلو غرام، وصار الخبز نوعين، أبيض وأسمر، ولم تأت الثمانينيات إلا وكانت المخابز كلها انتقلت إلى إنتاج الخبز الأبيض بسعر موحد.

الآن، بعد أن صار لدينا خبز سياحي منذ أعوام وبسعر سياحي طبعاً (200 ليرة للربطة) إلى جوار الخبز العادي، وبعد أن خرقت حكومتنا الرشيدة خطوطها الحمر ورفعت سعر الخبز، فوجىء السوريون بعودة الخبز الأسمر، وبدأت الشكوى من رداءة الرغيف تصبح صوتاً واحداً، واضطر كثير من الناس إلى المغامرة بشراء الخبز السياحي حلاً إسعافياً على أمل أن تقوم الحكومة بحلّ المشكلة.

يروي خبثاء أن ما سيحصل لاحقاً هو التالي: شيئاً فشيئاً سيتعود الناس الأكثر فقراً على الخبز الأسمر الذي يباع بسعر الخبز الأبيض نفسه، وينتقل إلى الخبز السياحي من استطاع إليه سبيلاً. وشيئاً فشيئاً ستزداد رداءة الخبز الأسمر الذي يزدرده العوام، وسيضطر المزيد منهم إلى الانتقال إلى استهلاك الخبز السياحي، مما سيخلق أزمة على هذا الصنف، ويدفع الناس (الجماهير الشعبية، بلغة المناضلين) إلى التوسل لدى الحكومة أن تزيد من إنتاجه وتعممه على الناس، وهكذا شيئاً فشيئاً سيعود إلينا الخبز نفسه الذي كنا نشتريه من أفران الحكومة قبل تلونه بالأسود، لكن باسم الخبز السياحي وبسعره، أي إن المخططين البارعين في حكومتنا سيقومون في غضون أقل من سنة برفع سعر الخبز الذي جعلوه ب35 ليرة للربطة إلى مئتي ليرة تحت مسمى الخبز السياحي.. وسيكون ذلك مطلباً شعبياً أيضاً..

هذا ما يردده خبثاء مغرضون، ولا ندري ما إن كانت الحكومة تملك رداً على هذه الأقاويل بإعادة الخبز الى ما كان عليه بالسعر الحالي نفسه.. ذلك هو امتحانها.. ولا أظنها تفكر بالنجاح فيه كثيراً.. كل تفكيرها محصور كما يبدو في الوصول إلى أعلى تسعيرة لخبز الناس عساها تعيد ترميم موازنتها!

العدد 1140 - 22/01/2025