من المسؤول عن إعادة الطفولة إلى سورية؟!
بات واضحاً من تداعيات الأزمة بأن الحرب التي تخوضها سورية ليست حرباً عسكرية أو أمنية، وإنما هي حرب ثقافية تربوية ودينية واقتصادية، تركت آثاراً نفسية عميقة على كل فرد، وأكثر من تأثر بها هم الأطفال الذين أجبروا على ترك بيوتهم وألعابهم ومدارسهم، وانتقلوا للعيش في بيئة مختلفة كلياً عن الجو الذين نشؤوا فيه، الأمر الذي أدى إلى رفضهم الذهاب إلى المدرسة، وتولد ظاهرة التسرب من المدارس، ودخول البعض في سوق العمل وهم في هذه السن المبكرة، أما البعض فلجأ إلى اللعب في الحدائق العامة والشوارع الأمر الذي أدى إلى استغلالهم من قبل الراشدين بأبشع الطرق والأساليب.
ما هو الحل؟!! وكيف نعالج هذه الظاهرة؟!!
يوضح الأخصائيون التربيون بأن الطفل يحبّ بيته كثيراً مهما كان بسيطاً، ويتعلق بألعابه ومدرسته ومعلمته كثيراً خاصة في حلقة التعليم الأساسي الأولى، فعندما يجبر على ترك بيته وتتغير البيئة التي ترعرع فيها، من الطبيعي أن يكون لكل هذا آثار سلبية على نفسيته، وبالتالي من الطبيعي أن يرفض الذهاب إلى المدرسة لأنها أصبحت مكاناً غير آمن بالنسبة له، وبالتالي أصبح من السهل أن يكتسب عادات وسلوكيات جديدة غير التي رُبّيَ عليها، كالكذب والسرقة ومعاملة الآخرين بطريقة عنيفة، والتدخين، إلخ.
كان محمد البالغ من العمر 9 سنوات يعيش في منطقة جوبر، انتقل للعيش في منطقة دويلعة بعد أن دخل المسلحون إلى بيته وقاموا بإطلاق النار على أخيه البالغ من العمر سبعة أشهر، محمد يرفض الآن الذهاب إلى المدرسة لأنه يخاف أن يخسر أخاه الآخر، وهو يعمل الآن في محل لتصليح السيارات، تعرض محمد للتحرش من قبل راشدين عدة مرات، الأمر الذي أدى إلى اكتسابه سلوكيات عنيفة، وأصبح يخاف من الكبار كثيراً، وفقد ثقته بهم، مع العلم بأن محمد طفل مميز في مادة الرياضيات، ويحب العلوم كثيراً. محمد مثال عن الأغلاط التي نشأت من ظاهرة انتشار التسرب من المدارس.
لذلك من واجبنا كتربويين وعاملين في حقل التربية أن نقوم بإلقاء الضوء، وأن نبذل جهدنا للتعاطي بإيجابية مع هذه الظاهرة، لأنه من المعروف بأن التخريب سهل أما البناء والإصلاح فهو بحاجة إلى الكثير.
إذاً من أين نبدأ؟!! لقد ظهرت في مجتمعاتنا مراكز مجتمعية يعمل فيها أشخاص مهتمون بتنمية الطفل يعملون بالتوازي مع الأسرة والمدرسة كي يتمكنوا قدر المستطاع من تحقيق جو من الأمان للطفل. لذلك من واجبنا كآباء أن نشجع أطفالنا على الذهاب إلى مثل هذه المراكز لإبعادهم عن الشارع وعن سوق العمل، لأن الأنشطة فيها موجهة وتربوية ومعدة من قبل أخصائيين لمعالجة الآثار التي تركتها الأزمة على نفسية الطفل، هذا بالدرجة الأولى.
ومن جهة أخرى، على مدارسنا اليوم أن تبذل جهداً كافياً وتغير من أسلوبها في الإدارة، لكي تصبح المدرسة مكاناً آمناً للأطفال، وهذا يتطلب وجود قائد إداري وقائد تربويّ ليسير العمل التربوي التعليمي بشكل صحيح، وهذا يتطلب إعداد المعلمين وتأهيلهم لكي يتمكنوا من التحكم بذاتهم، أي أن يخضعوا لدورات تساعدهم كي يكونوا إيجابيين ومتفائلين ومتعاونين يمتلكون قدراً كبيراً من الطموح والثقة بالنفس والصبر، عندما يعمل المعلم على تنمية مهارات التحكم بالذات لدى الأطفال سيتمكنون من تجاوز المواقف الصعبة التي مروا بها.
ومن أهم ما يساعد الأطفال على تنمية هذه المهارة هو تعزيز المعلم لهم من خلال إشعارهم بقدرتهم على الإنجاز، وهذا يعزز لديهم بأنهم مقبولون وأن ما يقومون به هو جيد ومفيد…
وهذه مجموعة من العبارات التي نقترح على المعلم استخدامها في تعامله مع أطفاله في المدرسة:
* أنتم منظمون.
* أنتم حكماء وفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون.
* عنايتكم بنظافتكم الشخصية تدل على صفاء ذهنكم.
* أنتم مجتهدون، مثل إديسون، وإينشتاين.
* أنتم متسامحون مع بعضكم البعض.
* أنتم متعاونون والتعاون ميزة رائعة في الإنسان.
* أنتم لا تتسرعون في إطلاق الأحكام، لأنكم صبورون في البحث عن الحقيقة.
* لكم مستقبل مشرق لأنكم صبورون ولديكم القدرة على التحمل.
* أنتم علماء ومستكشفون وباحثون.
عندما يتعامل المعلم بمثل هذه العبارات عوضاً عن استخدامه الصراخ، والبحث في كل مرة عن شيء جديد سيحب الطفل المدرسة حكماً وسيلتزم بالذهاب إليها، وبالتالي ستنمو لديه النزعة الإنسانية وسيبحث عن أفضل الأساليب ليكون محبوباً.
إن تنمية النزعة الإنسانية لدى الأطفال تدعوهم لتجاوز الاختلافات المذهبية، وتساعدهم على تقبل بعضهم البعض بالرغم من جميع الاختلافات، ويتعلمون بأن هذه الاختلافات تزيد لدى الفرد قيمة جديدة فقط، وهذه بعض الأساليب المقترحة يمكن تنفيذها داخل حجرة الصف بهدف تنمية النزعة الإنسانية لدى الأطفال:
* زيارة الأطفال في مراكز الإيواء واللعب معهم.
* زيارة المراكز الخاصة بصعوبات التعلم مثل بيت السفينة وآمال، الخ…
* العناية بالأشجار والنباتات.
* الاهتمام بحيوان أليف.
* التماس الأعذار للآخرين.
* تخصيص صندوق للادخار، يتشارك فيه الأطفال من مصروفهم، ومن الممكن أن يشتروا بالنقود كتباً لمكتبة المدرسة.
* إعداد وجبة فطور داخل الصف ودعوة أطفال من صفوف أخرى إليها.
* الاهتمام بزيارة دور العجزة ومساعدتهم قدر الإمكان.
إن العمل التربوي هو عمل تراكمي لا يتم بين ليلة وضحاها، ونحن نعلم بأن تجاوز هذه الأزمة بالتداعيات التي تركتها على نفوس أطفالنا أمر صعب ويحتاج إلى تضافر جهود جميع أفراد المجتمع بدءاً من الأسرة، النواة الأولى، والمدرسة والجمعيات الأهلية والمؤسسات الحكومية، ولقد حان الوقت ليتحمل كل فرد مسؤوليته، ويبذل كلّ منا جهداً كافياً في تغير أسلوب الاستغلال والكذب والنفاق واللف والدوران الذي بات شائعاً في تعاملنا مع بعضنا البعض، وأن نعود لأصالتنا السورية، لأن طفل سورية هو مسؤوليتنا جميعاً، ومستقبل سورية هو مسؤوليتنا أيضاً، لذلك كلما اهتممنا بطفولتنا كلما ضمنا مستقبلاً واعداً لوطننا.