بريئة من الاختراع
كلما سمعت خبراً عن اختراع جديد ابتكره مبدع من وطني، تنتابني مشاعر متناقضة، من إعجاب إلى تفاؤل إلى شفقة – نعم شفقة لا تستغربوا -، شاهدت مؤخراً تقريراً تلفزيونياً عن اختراع مفيد يجري تطبيقه في إحدى قرى السويداء، ويعتمد على معالجة فضلات البقر للحصول على السماد الطبيعي، إضافة إلى تأمين وقود بديل عن الغاز، وقد أسعدني أن يتمكن مبتكر الاختراع من تجربته على أرض الواقع متجاوزاً مشاكل البيروقراطية والتمويل وغيره، إلى الاستفادة منه فعلياً، وقبل أكثر من عشر سنوات قابلت مخترعاً من مدينة حمص، جاء يطرق أبواب المسؤولين في وزارة النفط، ليقدم فكرته التي تقوم على تحويل القمامة المنزلية إلى غاز نظيف، لم أستطع وقتذاك متابعة ما حصل معه في الدوائر الحكومية المسؤولة عن الاختراعات، و لكن النتيجة واضحة دون شك، فلو أن الفكرة لقيت التجاوب، لما تحولنا خلال السنين الخمس الماضية إلى مخلوقات تطرب لسماع صوت طرقات حبيب القلب بائع الغاز! ما الذي يحدث في مثل هذه الحالات؟ أتساءل دائماً هذا السؤال، وخصوصاً أنها حالات تتكرر، فالعبقرية ليست شيئاً استثنائياً عندنا، كذلك الإبداع، بل يمكن القول بكل صدق إننا شعب مبدع، ولو لم يكن هناك مبرر لقول هذا سوى قدرتنا العجيبة على الاستمرار في الحياة رغم كل شيء…
بربكم ماذا تقولون عمن يقوى على إعالة عائلته براتب حكومي؟ أليس عبقرياً؟ و- بكل تواضع – أقول إني كنت أفكر باختراعات ستغير وجه التاريخ لولا وجود مانع خطير يجعلني حالياً أؤجل ذلك، كان يمكن مثلاً أن أحول التصريحات الحكومية المتفائلة إلى غذاء يكفينا كمخزون استراتيجي لسنوات! بل كان يمكن أن أحول قشور الفول إلى دواء، لو مزجت مع كل قشرة قرار من قرارات المصرف المركزي! ولكن هيهات لا أجرؤ الآن على ذلك و ولا أخجل أن أصارحكم بالسبب، وهو أني قبل فترة قرأت – على ذمة صحيفة محلية موثوقة – خبراً مدهشاً عن أن الجهة المسؤولة عن الاختراعات في بلدنا والتي لا أدري إلى أي وزارة تتبع قررت منح مكافأة اختراع قدرها… احبسوا أنفاسكم أولاً: قدرها 3425 ل. س نعم ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمس وعشرون ليرة بالتمام والكمال على كل براءة اختراع!
وهي تبرر القرار الخطير بأنه بهدف تشجيع الإبداع! يعني فعلاً هكذا سيتشجع من كان جباناً فيقدح ذهنه ويأتي باختراع من أجل الحصول على المبلغ الطائل، ولكن أنا بالنسبة إلي لم أعتبر هذا المبلغ مشجعاً لي بل الحقيقة هو ما منعني من التقدم باختراعاتي، إذ أن حيازة مثل هذه المبالغ هذه الأيام يعتبر أمراً غير مأمون وقد يعرض حياتي للخطر! ثم أن الأقارب والأباعد سيسببون لي المشاكل فور شمهم لرائحة النقود، فهذا يريد أن يستدين مبلغاً ليسدد أجرة بيته، وذاك يريد هبة يرجعها يوم الدين، والجميع طبعاً سيطالب بحلوان المكافأة، وسأضطر لمجاراتهم خوفاً من حسدهم، فيكون علي ذبح عجل أو خروف على الأقل… وفوق ذلك لا أضمن رؤسائي في العمل، إذ إنهم سيحاربوني كلما وجِّهت إليَّ دعوة لحضور مؤتمر عالمي للمخترعين، وسيعملون كل ما في وسعهم كيلا أنجح.
فهل عرفتم الآن لم لا أفكر بالاختراع؟ على كل حال،ولحسن الحظ أن ليس كل الناس تفكر مثلي وإلا مات الإبداع، فلا بد من أناس شجعان سيتجاوزون هذه المشاكل، وينهضون من فورهم لتقديم اختراع كل يوم، بل أتوقع أن يعم الرخاء البلاد، لأن كل مواطن من اليوم فصاعداً سيستغل ساعات وقوفه في الشارع بانتظار السرفيس، أو على الحواجز، أو في الطوابير، في تشغيل دماغه للإتيان بأفكار جديدة، فيؤمن بذلك مصدر رزق له، ويقبر الفقر إلى آخر حياته. وربما تكون خطوة أولى في طريقنا للحصول على (نوبل) مستقبلاً. أما من جهتي فلن أبالي بهذه المغريات، أما لو أصروا وأجبروني على أخذ المكافأة، فلن أحرجهم، سأقبضها من هون، وأذهب لأشتري بها وجبة فراريج مشوية من هون، يعني دجاجتين قد ينقصن جناحاً أو فخذاً حسب آخر تسعيرة حكومية، لا يهم، لكن سؤال واحد يحيرني: هذه الخمس وعشرين ليرة ما قصتها؟ لماذا لم يجبروا المبلغ مثلاً إلى 3500 أو يقرطوا الخمسة وعشرين لكي لا تسبب لي هذه الحيرة!