مصائد.. ومكائد

لا تنصب المصائد والمكائد للأعداء فقط، فنحن ننصب الفخاخ والشباك والألغام لاصطياد الطيور، وقتل الأسماك، رغم عدم وجود عداوة بيننا!

وللأفخاخ والشباك والمصائد أنواع كثيرة، وأشكال أكثر، فهي تشبه الناس من حيث الأفكار والطباع والنوايا، ومن حيث الأشكال تشبههم بالطول والقصر، والجميل والقبيح، والسريع والبطيء، والمعاق والسليم.

ومنها ما يصطاد اعتماداً على شكله وجماله، ومنها ما يصطاد اعتماداً على لسانه وأصابعه، وما أسرع أولئك الذين يقعون بسرعة فريسة الكذب والخداع والنفاق، وما أكثر الذين يعيشون حياتهم مصيودين، ومقنوصين من قبل أقرب الناس إليهم.

حدث ذات ليلة موحشة من ليالي كانون، حادثة غريبة، وقعت علينا، بعضنا أخذها درساً وعبرة، والبعض ما زالت تقع لهم وعليهم في كل يوم.

في تلك الليلة المثلجة صعد أبي إلى السقيفة وأنزله.. كان مدوراً، كبيراً، وأسنانه حادة.

قال وهو يمسح الغبار عنه:

هذا الفخ لجدّكم، أحضره من فلسطين حين ذهب مع الثور.

فقلنا مدهوشين: ولماذا أحضر فخاً ولم يحضر عروساً حلوة؟

فضحك أبي وقال: إنه ذكرى من فلسطين (أما العروس فملحوق عليها).

ثم تابع: يا أولاد.. الفخ ضروري لكل بيت، بشرط أن يبقى منصوباً في الأماكن المشكوك بدخول الضباع والثعالب والخنازير إليها لتخريبها.

كان جدنا قد رحل منذ سنين، تاركاً لنا هذا الفخ الصدئ ذا الأسنان الرمادية.. لكن والدي جعله جديداً بعد أن لمّع أسنانه وهيكله الخارجي.

اصطحبني معه إلى الغابة القريبة لننصب الفخ، فسألته: هل سننصبه للضباع؟!

قال: أجل.

قلت: سمعت جدتي تقول إن لحم الضبع يكسب الإنسان النخوة والشجاعة إذا أكله؟!

فقال والدي: جدتك معها حق، لكن الضبع الذي سنصطاده لايؤكل لحمه.

– ولماذا؟!

–  لأنه يسرق أغنامنا.

لم أفهم.. الذئاب أيضاً تسرق الأغنام، ومع ذلك نأكل لحمها.

كان قطيع أغنامنا يتناقص باستمرار.. كل يومين أو ثلاثة نفقد نعجة، حتى صار رغيف خبزنا من الحليب مهدداً بالذوبان.

نصب أبي الفخ بحذر وغطاه ببعض الأغصان بعناية كبيرة، فقلت: ربما لن تقترب الضباع أو الذئاب منه، لأنها قد تشم رائحة الحديد، أو تلاحظ أن أحداً ما قد عبث بالمكان.

لم يرد أبي.. فرحت أثناء عودتنا إلى الدار أرسم في رأسي صوراً ووجوهاً لضباع وخنازير متوحشة تهاجم قطعان الماشية وتفتك بكل حي يصادفها، ولم نكن نملك سوى فخ وحيد ويتيم، والضباع من حولنا كثيرة، والخنازير أكثر وأكثر..

وبعد عدة أيام سمعنا صوته.

لم تكن حظيرة أغنامنا بعيدة عن دارنا، لذا كان صوته قريباً، واضحاً، ومألوفاً.

أسرع والدي وأخذ بندقيته وانطلق، فركضت خلفه.. ورحنا نشق طريقاً جديداً في الثلج الذي تكوم خلال الليل، وكلما اقتربنا كان الصوت المذعور يصيح ويستغيث ويستنجد.

فجأة.. صوّب والدي بندقيته وتسمّر في مكانه. حتى الرياح توقفت، وكف الثلج عن التساقط، وهدأت الطبيعة، وكأنها لم تكن في يوم من الأيام تتوقع ذلك.

صاح أبي غير مصدق: يا حيف.. هذا أنت يا أخي؟!

وجاء صوت عمي مرتجفاً: سامحني يا أخي.. سامحني.. ومن دون شعور، رفع والدي البندقية نحو الفضاء، وشرع يطلق النار، وكأنه أراد الانتقام على طريقته..

إنها حكاية ما حدث بالأمس، وما يحدث اليوم، وما سيحدث غداً.

فخيانة الأعداء ومكائدهم ونفاقهم تدمي الجسد، أما خيانة الأشقاء والأصدقاء، فإنها تدمي الكبد، وتحرق الرئة وتخنق الروح، وتترك ألف غصة وحسرة في أعمق أعماق القلب!

العدد 1140 - 22/01/2025