بيوت وقلوب

لبيت الطفولة – مهما تواضع – مكان في أحنّ حنايا القلب، لا تدانيه في المنزلة قصور العالم كلها، فكيف إذا كان البيت يجمع إضافة إلى الإخوة الأهل والجيران والأصدقاء؟ حالياً عندما أحكي لابنتي عن بيت طفولتي الذي كان عبارة عن غرفة واحدة في دار كبيرة تجمع عائلات عديدة، فإنها تعتبرني محظوظة لكوني عشت في ذاك البيت الذي يضم أطفال الجيران كلهم كأنهم أسرة واحدة، وتسألني ببراءة ودهشة: هل كنتم تلعبون معاً منذ استيقاظكم وحتى موعد نومكم؟! وهل كنتم تتناولون الطعام معاً؟ فأجيبها: ليس هذا فقط… بل كانت أمهاتنا يطبخن الطعام في مطبخ واحد، وكنا نذهب مع أمهاتنا إلى السوق أو النزهة معاً. حينها تبدي ابنتي حسرتها لأنها محرومة من هذه المعيشة الحرة، ولأننا باسم التمدن قد فرضنا علي الأولاد مجموعة قواعد لا تنسجم مع طبيعتهم، إذ: ممنوع النزول إلى الشارع… ممنوع زيارة الجيران إلا في أوقات محددة… وغير ذلك من قيود. ولأننا لا نحمل من أزهار طفولتنا إلا عبيرها، فقد كان طبيعياً أن أحدثها عن الجارات اللواتي كن يقضين أغلب النهار معاً مستأنسات ببعضهن في ظل غياب الأزواج المسافرين للعمل أو للخدمة في الجيش، ولكن دون أن أذكر لها معاناتهن من افتقاد الخصوصية في بيوتهن نتيجة السكن المشترك، ولم أغفل عن إخبارها كيف كنا نصنع مؤونة المربيات والمكدوس متعاونين، ولكني أغفلت قصص النزاعات التي كانت تنشب أحياناً بين النسوة بسبب نشر الغسيل أو تنظيف ساحة الدار،حدثتها عن ألعابنا التي لا تنتهي ولكن لم أحدثها عن ضجيجنا و صراعاتنا الطفولية التي كانت تنتقل إلى الكبار مخلفة الجفاء بينهم. حدثتها عن رغيف الخبز الذي كنا نقتسمه مع الجيران في حالة الضرورة، ولكن لم أحدثها عن أجرة البيت التي كانت تشكل هماً لأهلنا رغم ضآلتها في تلك الأيام! كل شيء كان مشتركاً حتى الأغنية التي تصدح في الراديو، كان يكفي أن تفتح نافذتك لتطرب بها من بيت جارك. لقد رسمت لها ولنفسي صورة بديعة لحياة الناس الذين جاؤوا مهاجرين من قرى ومناطق مختلفة، بحثاً عن فرصة ومستقبل أفضل لأبنائهم، متناسية حلمهم ببيت خاص يستقلون به ويكون ملكهم، حتى غدت ذكريات ذاك الماضي تمثل الفردوس المفقود في خيال طفولتنا، والحلم المستحيل لجيل أبنائنا الذين افتقدوا ألفة الجيرة ودفء العلاقات الإنسانية في مبان لا تعرف ساكنيها مهما طالت إقامتك بينهم…

 وماذا حدث بعد ذلك؟ لقد دهمتنا الحرب، وتهدّمت البيوت، وهجّر أصحابها، فعاد الناس – مضطرين – للعيش معاً، عائلات سكنت في بيت واحد، قد يكون بيت العائلة، أو بيت استأجروه معاً ليتسنى لهم دفع مبلغ الإيجار الكبير، وأسر لجأت إلى بيوت أقاربها، وها قد عاد الجميع للعيش معاً… ولكن يا له من اجتماع قسري صعب! القلوب التي كانت تطوي الليالي بأمل عودة الغياب صارت واجفة من الغد، والأرواح التي انتزعت من بيوت عمرتها بالصبر والعرق لم تعد تأنس إلى بيوت بديلة، ولم تعد النسوة تجتمع للتنقيب في فنجان القهوة عن إشارة وصورة حمامة تحمل خبراً سعيداً، والأسوأ: لقد غدا الخوف هو الجار المشرئب من النافذة ومن السطح المجاور، فهل تجرؤ اليوم أن تفتح بابك لجار يطرقه ليلاً طالباً رغيف خبز من عندك؟ أو تترك طفلك في عهدة الجيران لأجل أن تقضي عملاً طارئاً؟

أسئلة تتردد بين جدران البيوت، وتتسرب خارجها أيضاً، ولكن ما دام الجواب عنها لم يصل إلى درجة النفي الحتمي، فما زال هناك أمل بكل تأكيد…

العدد 1140 - 22/01/2025