نخبة فيكتور هيجو… ونخب أخرى
يقول فيكتور هيجو في رائعته الخالدة (البؤساء):
لم يكن كافياً لكي تندلع الثورة الفرنسية أن يتنبأ بها مونتيسكيو، ويبشر بها ديدرو، ويعلنها بومارشيه، ويدبرها كوندورسيه، ويمهد لها فولتير، ويتعمدها روسو.. كان من الضروري أن يجرؤ عليها دانتون.
بهؤلاء الأعلام السبعة- كل بما يرمز – يرسم المفكر والأديب الفرنسي العظيم مستلهماً من تجربة الثورة الفرنسية الكبرى الملامح العامة المميزة لأحد أهم أركان هذا الفعل الإنساني الخلاق المثير للجدل المسمى (الثورة)، إن لم يكن ركنها الأهم على الإطلاق من حيث وظيفته قائداً وموجهاً للفعل الثوري نحو تحقيق غايته المنشودة.. وهو ما يصطلح على تسميته (النخبة).
قد يبدو من غير المفهوم انحياز رجل فكر وأدب وشعر مثل فيكتور هيجو، في سياق مفاضلته ما بين أقطاب هذه النخبة الثورية، إلى جانب الطرف الأبعد عنه – ظاهرياً على الأقل -والمتمثل بدانتون الذي يجسد دور الفعل الميداني المادي الصرف، وحشده لستة من أبرز عمالقة الفكر في أوربا كمقدمة للإشادة بجرأة هذا الزعيم الثوري وبأهمية دوره في صناعة الثورة، دون بقية رموزها من فلاسفة ومفكرين وكتاب. هو حتماً لم يقصد بهذا التوزيع المبتكر للأدوار الانتقاص من قيمة أولئك الأساطين والحط من شأنهم أو حتى اعتبارهم مجرد عوامل مساعدة رديفة وحسب، وهو خير العارفين بمكانة كل منهم وفضل بعضهم على البشرية جمعاء، بغض النظر مدى إسهامهم في الثورة الفرنسية. وإنما أراد مجرد التركيز على أهمية دور الفعل الميداني والتنويه بضرورته الحتمية التي لا غنى عنها باعتبارها الخطوة الحاسمة التي بها ينتقل الفعل الثوري من مختبرات الفكرة والنظرية إلى ميادين الواقع والحياة. وعليها يتوقف مصير كل ما سبقها من مفردات الفعل الثوري ومحطاته. ولعله لم يُردْ سوى القول بأن الأمور بخواتيمها.
وأياً كان ما أراد فهو بهذه الخلاصة المعبرة يقدم نموذجاً مثالياً عن المواصفات والسمات التي يجب تضافرها وتوافرها لدى كل نخبة تحمل لواء قضية عامة، سواء أكانت ثورة أم غيرها، حتماً لا يمكن الحديث في هذا الصدد عن شروط أو قوانين محددة تصلح لكل زمان ومكان كقوانين الرياضيات والفيزياء، فالسلوك البشري، وخاصة الجمعي منه، أعقد من أن يفسره قانون جامد أو أن ينظمه ناظم عام. ولكن نظرة سريعة إلى تاريخ هؤلاء الأعلام ومبادئهم وأفكارهم وميولهم ورمزية كل واحد منهم تنبىء بماهية التربة التي احتضنت بذرة هذا التحول الكبير وبالمناخ العام الذي اكتنفه:
فالمتنبىء بالثورة هو شارل مونتيسكيو (1689- 1755) الفيلسوف ورجل القانون المعروف، صاحب نظرية فصل السلطات، ومؤلف كتاب (روح القانون) الشهير الذي استمدت منه العديد من الديمقراطيات مواد دساتيرها، ومنها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. والمبشر بها دينيس ديدرو (1713- 1784) هو فيلسوف أيضاً. ومعلنها هو الكاتب المسرحي بيير أوغسطين بومارشيه (1732 – 1799) الذي شغل المشهد الثقافي العالمي بمسرحيتيه الخالدتين (حلاق إشبيليا – زواج فيجارو).
ومدبرها جان أنطون نيكولا كاريتا المعروف بكوندورسيه (1743- 1794)، يمكن اعتباره العلامة الفارقة في هذه الجوقة بالنظر إلى شمولية مؤهلاته، كعالم رياضيات فذ وسياسي لامع أحرج بعض أركان الثورة بنزاهته الأفلاطونية، إضافة إلى كونه فيلسوفاً.
وأما عن فولتير (1694- 1778) وجان جاك روسو (1712- 1778) فربما من غير الإنصاف مقاربة مكانة هذين العملاقين بمقياس مدى تأثيرهما في الثورة الفرنسية، مهما بلغ حجم هذا التأثير الذي أوجزه (ضحيتهما) لويس السادس عشر بقوله: لقد دمر هذان الرجلان فرنسا (بحسب رأيه طبعاً). فرسالة أمثالهما أعم وأشمل من أن تختزل بمدى تأثيرهما بحدث واحد، حتى ولو كان بحجم الثورة الأشهر في العصر الحديث، والتي تبقى في نهاية المطاف عنواناً لمرحلة تاريخية عابرة في تاريخ الإنسانية الطويل الذي يدين لفكر وفلسفة فولتير وروسو بالكثير مما يوجب تخليدهما كأيقونتين نادرتين من أيقونات العقل البشري. وهذا ما لا يمكن أن ينطبق على رجل القانون المحترف جورج دانتون (1759- 1794) زعيم الثورة وخطيبها المفوّه .
فلاسفة.. أدباء.. رجال قانون.. هؤلاء هم الرموز الذين اصطفاهم فيكتور هيجو بعناية ودراية كنخبة رائدة للثورة الفرنسية التي مثلت أيضاً خلاصة روح عصر التنوير الأوربي الذي أعاد صياغة وإنتاج مستقبل فرنسا، ومن ثم أوربا، وأفضى إلى تغيير مسار الفكر والسلوك الإنساني لاحقاً.
قد يسأل سائل: إذا كانت الثورة الفرنسية برغم كل هذا الحشد من المفكرين والمنظرين الذين تبنوها لم تنجُ من الوقوع في مطبات وسقطات حالها كحال الكثير من حركات التغيير المشابهة التي لم تحظ بأمثال هؤلاء، فعلام نكيل لهم كل هذا الثناء والمديح؟
لا شك أن مقدمة هذا الطرح المشروع تنطوي على حقائق ووقائع لا يمكن دحضها، ولكن التساؤل المبني على الطرح ينطوي على قدر كبير من الإجحاف بحق هذه النخبة أو بعض رموزها على الأقل، لأن الانحراف الذي شاب مسيرة الثورة ما هو في الحقيقة إلا انحراف عن خط نخبتها، والمسؤول عنه هو من تنكر لقيم هذه النخبة ومبادئها وأهدافها، ودور النخبة الأسمى لا يتجلى في مجرد قدرتها على ملامسة هموم من تمثلهم وحاجاتهم وتطلعاتهم وبلورتها في هيئة أفكار ورؤى تحدد بها الملامح العامة لمسيرة التغيير،بقدر ما يتجلى في قدرتها على خلق المناخ المؤاتي لفكرة التغيير عبر عملية توعية متكاملة شاملة لمختلف نواحي الحياة الاجتماعية، ترتقي بالمجتمع فكرياً ومعرفياً وأخلاقياً حتى تصل به إلى درجة من الوعي تمكنه من إدراك ضرورة التغيير وأهمية استمراريته، وتمنحه وسائل وآليات تجديده وتصويب مساره عند الضرورة. وهذا ما حصل لاحقاً لا في المجتمع الفرنسي فقط، بل في غيره من المجتمعات التي استلهمت مبادئ وقيم النخبة الفرنسية وتمثلتها. وهنا تحديداً تتجلى عظمة المفكرين من طبقة فولتير وروسو وغيرهما ممن أدركوا جوهر حاجات الإنسانية، فمنحوها ملامح حلم وردي ممكن التحقق في يوم ما، في مكان ما، وإن كان ذلك دون ادعاء امتلاك الوصفة السحرية لإقامة المدينة الفاضلة.
هذا غيض من فيض ما يمكن أن يقال عن الثورة الفرنسية ونخبتها. وأما عن المقارنة التي قد يذهب ذهن القارئ اللبيب إلى عقدها بين ما أتيح لفرنسا وثورتها وبين ما نشهده اليوم من زحمة ثورات ونخب، فلا أملك حيالها إلا شديد اعتذاري المسبق عن مشاعر الخيبة والمرارة التي ستستبد به، والتي قد تصل إلى حد الشعور بالمغص والغثيان، خصوصاً إذا ما أوغلت به أفكاره بعيداً في لعبة الإسقاط إلى حيث يجد نفسه ضحية أعراض لفحة ربيعية قارسة من تلك اللفحات التي تنبأ بها أسامة بن لادن، وبشرت بها كونداليزا رايس، وأعلنتها وسائل إعلام مشبوهة النشأة والتمويل والميول، ودبرها برنار ليفي، ومهد لها بندر بن سلطان، وتعهدها حمد بن جاسم، وتجرأ على القيام بها شذاذ الآفاق وقطاع الطرق.