لهذا خسرت شركة التوكيلات الملاحية بطرطوس مئات الملايين؟!
تعد شركة التوكيلات الملاحية بطرطوس من الشركات الهامة في مجال النقل البحري، وهي إحدى شركات القطاع العام التي حققت فيما مضى الكثير من النجاحات وأثبتت قدرتها على القيام بمهامها على أكمل وجه، بفضل الكوادر التي تعمل فيها والذين يتمتعون بالخبرة الطويلة.. وقد ساهمت الشركة على مدى عقود بتنفيذها خططها الإنتاجية في عملية التنمية الشاملة بما وفرته من إيرادات خاصة بالقطع الأجنبي، وكانت الحاجة وما زالت ماسة إليها، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أنها رفدت خزينة الدولة بأكثر من 652 مليون ليرة، إضافة إلى توفير فرص عمل للكثير من العاطلين عن العمل.
بتاريخ 29/12/1969 صدر المرسوم رقم 347 القاضي بإحداث شركة التوكيلات الملاحية وتبعيتها كاملة للقطاع العام، وقد حدّدت المسؤوليات الملقاة على عاتق هذه الشركة بالفقرة (ب) من المادة1 من هذا المرسوم: تولّي الشركة المحدثة (شركة التوكيلات الملاحية) لجميع الخدمات اللازمة للسفن وناقلات النفط التي تؤمّ الجمهورية العربية السورية، وخاصةً أعمال الاستقبال والترحيل، وتموين السفن، وخدمة المسافرين، والإشراف على نقل البضائع من السفن إلى الرصيف وبالعكس، وغير ذلك، وتقديم المساعدات والخدمات البحرية اللازمة التي تتعاطاها عادةً وكالات خدمة السفن.
مقدمة لا بدّ منها
نتيجة الدراسات المتعلقة بواقع التوكيل الملاحي الذي كان سائداً في ذلك الوقت صدر كتاب رئاسة مجلس الوزراء رقم 5341/1/31 تاريخ 30/10/1980 الذي حدد مطلع عام 1981 البدء بحصر وكالات جميع سفن الحاويات بوكالة الشركة، إلاّ أن هذا الكتاب لم يَرُقْ للوكلاء من القطاع الخاص، وبدأت الاعتراضات والكتب التي رفعت إلى الرئاسة والوزارة، وكان أن عُقد اجتماع برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 9/12/1980 ضم السادة (وزير النقل، محافظ اللاذقية، محافظ طرطوس، أمين فرع اللاذقية، أمين فرع طرطوس، معاون وزير النقل، مدير عام شركة التوكيلات الملاحية، مدير عام الموانئ، مدير مرفأ اللاذقية، مدير مرفأ طرطوس، وعدد من فنّيي رئاسة مجلس الوزراء ووزارة النقل)، نوقش خلاله واقع شركة التوكيلات الملاحية، والإجراءات اللازمة لتطوير عملها وتمكينها من تنفيذ مضمون مرسوم إحداثها لتمارس عمل شركات التوكيلات الملاحية الخاصة، وقد تقرر بنتيجة الاجتماع تنفيذ مضمون المرسوم التشريعي رقم 347 لعام 1969 القاضي بإحداث شركة التوكيلات الملاحية، والذي هدف المشرّع من خلاله إلى حصر جميع الوكالات البحرية في شركة التوكيلات الملاحية، إضافةً إلى بعض المقررات الأخرى التي تدعم تنفيذ الحصر واستقطاب الخبرات، وذلك بموجب محضر الجلسة بالكتاب رقم 9214/10 تاريخ 14/12/،1980 والتزمت الشركة بهذه المقررات، ونفذت الحصر على الوكالات الملاحية الخاصة بدءاً من 1/1/،1981 وأصبحت الوكيلة الوحيدة في القطر لكل الشركات الملاحية وأصحاب السفن والناقلات التي تسيّر سفنها وناقلاتها إلى المرافئ والمصبات السورية.
مهام الشركة
تتولى الشركة جميع الخدمات اللازمة للسفن وناقلات النفط التي تؤم مرافئ القطر ومصباته، وخاصةً أعمال الاستقبال والتسفير والترحيل وتموين السفن وخدمة المسافرين والإشراف على نقل البضائع من السفن إلى الرصيف وبالعكس وغير ذلك من المساعدات والخدمات التي تتعاطاها عادةً وكالات خدمة السفن، إضافة إلى الخدمات المرافقة لأعمال التوكيل الملاحي والتي تتضمن (أندية الحماية – تموين السفن بالمؤن المختلفة – طبابة ركب السفن والناقلات وعلاجهم – تسفير البحارة واستقبالهم – تخليص البضائع).
المرسوم 55
صدر المرسوم التشريعي رقم 55 تاريخ 8/9/2002 الذي أضاف إلى المادة الأولى من المرسوم التشريعي رقم 347 تاريخ 30/12/1969 مايلي:
يجوز الترخيص للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين بمزاولة أعمال الوكالة البحرية للسفن التجارية التي تؤم المرافئ السورية والتي تقوم بنقل الركاب أو بضائع القطاع الخاص أو بضائع العبور وفق الأسس والشروط ونسب البدلات التي تضعها وزارة النقل.
وبالتدقيق في نص المرسوم نجد أنه حدّد عمل مكاتب التوكيلات الملاحية الخاصة بنقل الركاب أو بضائع القطاع الخاص، ولكن الذي جرى بعد صدور التعليمات التنفيذية للمرسوم أن شركة التوكيلات الملاحية باتت تعمل إلى جانب أكثر من 70 وكالة خاصة، وشيئاً فشيئاً وبسبب تلك التعليمات التي لم تؤكّد حصرية عمل تلك المكاتب الخاصة بالركاب والبضائع الخاصة سُحب البساط من تحت شركة التوكيلات الملاحية ليتحول العمل بشكل كامل إلى المكاتب الخاصة.
أرقام ودلالات
يمكننا بإلقاء نظرة سريعة على بعض الأرقام أن نقرأ حجم الأموال التي خسرتها الدولة بعد التعليمات التي فسّرت بطريقة خاطئة المرسوم 55 الذي أعطى القطاع الخاص حق وكالة السفن العامة والخاصة، خلافاً لما نصّ عليه المرسوم:
فمثلاً كان مجموع ضريبة الدخل المحولة لمديرية مالية اللاذقية من شركة التوكيلات الملاحية خلال تسعة أعوام نحو 1.692.556.664 ل. س، والمبالغ المحولة لصندوق الدين العام في وزارة المالية خلال الفترة نفسها هي 1.793.390.318ل.س ليصل المجموع إلى 3.485.946.982ل. س.
ولو تقصينا نسبة توزيع السفن في شركة مرفأ طرطوس خلال خمس سنوات غير متتالية بين القطاع العام والقطاع الخاص نتيجة سوء تفسير المرسوم 55 لوجدنا ما يذهلنا:
ففي عام 2006 كان عدد السفن 2638 منها بالتوكيل الخاص 2447 وبشركة التوكيلات الملاحية .191. وبحساب النسبة نجد للقطاع الخاص 92.8.%، وللقطاع العام 7.2%، وحصة القطاع الخاص بالنسبة للقطاع العام 14 ضعفاً!
وفي عام 2010 كان عدد السفن 2425 منها للقطاع الخاص 2327 وللقطاع العام 88 والنسبة للخاص 95.4%، وللعام 3.6%، وتكون حصة القطاع الخاص بالنسبة للعام 27 ضعفاً!
وفي عام 2011 كان عدد السفن 2063 منها للقطاع الخاص 2004 وللقطاع العام 59 وتكون النسبة المئوية للقطاع الخاص 97.2%، والنسبة المئوية للقطاع العام 2.8%، وتكون حصة القطاع الخاص إلى العام 35 ضعفاً.
وفي عام 2012 كان عدد السفن 1355 للقطاع الخاص 1283 وللقطاع العام 72 فتكون النسبة المئوية للقطاع الخاص 93.7%، وللقطاع العام 5.3%، وتكون حصة الخاص بالنسبة للعام 19 ضعفاً!
ولو تابعنا في كشف حجم ماخسرته الخزينة من خلال عرض كميات البضائع المفرغة وتوزيعها بين القطاعين الخاص والعام خلال خمس سنوات غير متتالية وبالطريقة نفسها لوجدنا ما يذهل أيضاً:
ففي عام 2006 كانت الكميات الواردة 12.690.000 طن حصة القطاع الخاص، منها 11.800.763طن، وحصة القطاع العام 889.237طن، وتكون النسبة للقطاع الخاص 93% وللقطاع العام 7%، وبالتالي حصة الخاص بالنسبة إلى العام 14 ضعفاً.
وفي عام 2008 كانت الكميات الواردة 13 مليون طن، حصة القطاع الخاص منها 12.174000طن، وحصة القطاع العام 825.200 طن، وتكون النسبة للقطاع الخاص 93.7% وللعام 6.3% ونسبة القطاع الخاص إلى العام 15 ضعفاً.
وفي عام 2010 كانت الكميات الواردة 13.500000طن، كانت حصة القطاع الخاص 500,977,،12 وللقطاع العام 522.500 وتكون نسبة القطاع الخاص 96.2% والقطاع العام 3.8% وحصة القطاع الخاص إلى العام 26 ضعفاً. وفي عام 2011 كانت الكميات الواردة 11.437.000طن، حصة القطاع الخاص 11.139.619طن، والقطاع العام 297.381طن وتكون النسبة للقطاع الخاص 97.4% وللقطاع العام 2.6%، وتكون نسبة القطاع الخاص إلى العام 38 ضعفاً.
والسؤال الذي يطرح هنا: ما الذي حققته كل هذه الوكالات مجتمعة لخزينة الدولة ياترى؟! وما هي المصلحة العامة في استمرار ذلك إذا قارنا بين حصة القطاع الخاص وحصة القطاع العام؟ وهل دفعت الوكالات الخاصة لخزينة الدولة ما يتناسب والحصة الكبيرة في عام 2011 مثلاً والبالغة 38 ضعفاً؟!. من جهتي لا أعتقد ذلك!
وإذا كنّا نؤمن بضرورة أن يكون هناك دور للقطاع الخاص إلى جانب القطاع العام، فإننا نتمنى أن لا يكون هذا الدور على حساب القطاع العام والعاملين فيه.
وهنا لا بد من طرح سؤالين:
الأول: ما هو المانع من أن يتم تنفيذ تعليمات المرسوم 55 بما يضمن حق شركة التوكيلات الملاحية في بضائع القطاع العام مهما كانت النسبة؟!
والثاني: لماذا لا يُطلب إلى الجهات العامة في الدولة تضمين عقودها الخارجية شرط أن يكون وكيلها في ميناء التفريغ شركة التوكيلات الملاحية؟!
وكي ننجز ما يجب أن ننجزه فيما يخص التوكيلات الملاحية، فلا بد من أن نعرّج على ورشتي الأسلاك والخياطة.
ورشة الأسلاك
كانت كل البواخر تستقدم أدوات التفريغ من هذه الورشة العائدة لنقابة عمال المرفأ، وكانت تحقق أرباحاً وإيرادات وصلت إلى أكثر من 10 ملايين ليرة في العام.. هذه الإيرادات كانت تصرف على العاملين كنفقات طبية وعلاجية وعمليات جراحية وإعانات وفيات وإصابات للإخوة العمال المنتسبين للنقابة، لكن دخول القطاع الخاص بهذا الشكل إلى ميدان العمل حرم الورشة من تقديم خدماتها، إلاّ لسفن التوكيلات الملاحية، مما أدى إلى تراجع الإيرادات، وبالتالي انعكس ذلك سلباً على الإخوة العمال.. يأمل العاملون في التوكيلات الملاحية أن يُحصر استجرار أدوات التفريغ من هذه الورشة لصالح جميع السفن العاملة في المرفأ، وبهذا يمكن تأمين خدمات أفضل للإخوة العمال.
ورشة الخياطة
متوقفة منذ أكثر من خمس سنوات توقفاً نهائياً، بالرغم من وجود المكان والأدوات والمعدات اللازمة بجاهزية كاملة وتامة، وهذه الورشة كانت تقدم للإخوة العمال في المرفأ والفوسفات الكسوة العمالية، وتتيح لهم أخذ مقاساتهم بدقة نظراً لقربها من أماكن عملهم ما يوفر لهم اللباس المريح والأكثر جودة.
وهذه الورشة كانت تدرّ أرباحاً صافية سنوية تقدر بنحو 5,22.5 مليون لير ة سورية، أي ما يعادل حالياً نحو 12 مليون ليرة سورية، كانت هذه الأرباح تعود بكاملها لخدمة الإخوة العاملين وأفراد أسرهم عبر صندوق المساعدة الذي يضمن تقديم إعانات طبية وجراحية وعلاجية للعاملين وأسرهم.
ما يأمله العاملون في التوكيلات الملاحية استثناء هذه الورشة من التعليمات الوزارية النافذة حالياً والتي حصرت استجرار كساء العاملين بوزارة الصناعة التي تحدد الجهة العاملة المسموح باستجرار اللباس منها (سندس – وسيم)، والسماح لورشة الخياطة في التوكيلات الملاحية بتقديم الكسوة العمالية لعمالها الواقعين ضمن حرم عملها في المرفأ والفوسفات.
أخيراً
من غير المنطقي الاستمرار بهذه العقلية التي تحرم خزينة الدولة من مئات الملايين من القطع الأجنبي في هذه الظروف الصعبة التي نحن فيها أكثر حاجة لذلك، فهل سنرى تقسيماً منصفاً وعادلاً للحمولات والسفن بين القطاعين، أو على الأقل إلزام المكاتب الخاصة بدفع ما يتناسب وحصتها من السفن رأفة بخزينة الدولة؟! هذا ما نأمله وسوف نتابعه.