على قارعة الطريق

في أقصى الطريق، وفي ركن مهمل، جلست دون اسم واضح في عنوان ملتبس تحتضن ابنتها وتتوسل المارة بأن ينقدوها بعضاً من نقودهم، تتوسلهم لكن بصوت رضيعتها الذي لا يتوقف، بكاءً مراً لا تستطيع معه إلا أن تقف وتحاول إيقافه بطرق شتى، ربما بالابتسامة ربما بالنظر ملياً، لكن الطفلة التي كبُرت أمها لم تحسن سوى لغة البكاء، وربما يخمن المرء هنا أنها جائعة أو مريضة أو يتيمة الأب، أو  أرغمت هي وعائلتها على النزوح من تلك المناطق الساخنة وأصبح المأوى طليقاً عله شارع جانبي تستحث فيه المارة على الانتباه والإصغاء لحكايتها المبتسرة سوى من عناوينها، رهط من المارة يحث الخطا بعيداً عن ذلك المشهد الذي توقف به الزمن وأوقف عدسته عنده، والبعض الآخر يتعلل الحديث أمامهن -الأم وابنتها- كي يعرف أكثر أبعاد الحكاية التي تشبه عشرات الحكايات) وفي أكثر من شارع ومكان.

وفي تشابه تلك الحكايات لا نعثر على الصوت الحقيقي الذي ينبئنا بغير تفاصيل ألفناها، وبغير وجوه رأيناها وبغير لغة نتداولها، ثمة صبية عابرون تأملوا تلك المرأة طويلاً وكأنهم يتأملون (منيكاناً) قُذف به من واجهة محل دفعة واحدة، لكنه ناطق بالضرورة فلا زجاج يحميه من عبث العيون ومن تطاول الأصابع، ولا بائع يهش عنه الغبار العابر أو يعيد توازنه كلما تداعى قليلاً أو مال إلى السقوط، بضعة صبية ظلوا مسمرين وكأنهم يرون المرأة للمرة الأولى، يطيلون النظر في تفاصيلها، في بقية الطعام الذي رُكن جانباً وفي الأصابع التي نقش عليها الزمن تجاويف وأخاديد غريبة الشكل، وفي بقايا الثياب التي ربما رماها (كومبارس) إثر انتهائه من دوره.

فهل هي (كومبارس) آخر على خشبة الحياة يريد أن ينتزع دور البطولة المطلقة، لكن لا بطولة في هذا الموقف إذ إن التشابه وفي غير مكان سيقتل هذا الدور وربما يبدده نهائياً.

حاولت أن أستدرجها ذات فضول لأعرف بالضبط من أين أتت ولماذا بكاء طفلتها لا يتوقف، الطفلة في قماطها المحكم لا تتحرك أبداً سوى صوتها الذي يخرق ضجيج الشارع كأني به لحناً ناشزاً في سيمفونية المارة الكثيرين المستعجلين إلى اللا شيء، فقط يثير انتباه من مشوا متثاقلين بما وسعهم من هموم وآلام وأوقات عصيبة، لكن كما يقول شاعر (لقد أسمعت لو ناديت حياً لكن لا حياة لمن تنادي).

فهل بات المرء يكلّم ذاته في هذه الأيام وكثيرون لا يسمعون سوى أصواتهم بالذات؟

 عليك أن تتخيل أنه في زمن مضى  كان (القرباط) يتكلمون في جلساتهم دفعة واحدة، فمن كان يسمع تلك مفارقة في أزمنة مضت، وربما استُنسخت الآن حين لا يسمع -المارة- صُراخ الطفلة أو الوليدة أو أي شيء آخر، فهي فقط من تسمع صوتها.

على حين غرة مددت يدي لأداعب تلك الطفلة، فارتعشت يدي وارتد بصري حاسراً من هول مفاجأة لم أستطع بوحها حتى لنفسي.

كانت الطفلة دمية جميلة موقوتة الصوت، لو أن الصوت كان متقطعاً لكنت انتبهت أنها حقيقية، ولكن ولوقت ما يظل الصوت هكذا خلت أن في الأمر شيئاً، لأشبع فضولي باكتشاف ذلك السر الذي اعتادت تلك المرأة على إخفائه بمهارة كاملة كي تستعطف أولئك المارة بقليل من النقود.

أمام ضراوة المفارقة قفزت على شفتي جملة واحدة، ما الفرق إذن في دمى نحملها، أو بضعة دمى تمر أمام عدسة الواقع لا تلوي على شيء، مع فارق واحد أن من بقي موقوتاً هو مشيها بالذات إلى جهات مختلفة.

العدد 1140 - 22/01/2025