عابرون في الدمعة الأخيرة

وهكذا، تقف الدمعة عند حدود العين، ولا تغادر عين لهفتها، وهي ترصد بقايا العابرين إلى صقيع الشمال البعيد! حيث يصبح فينا الأقرب لوعة، وتأسياً، وأسى من الجنوب الذي كان جهة القلب، ولصقه المجاور: وطناً، وحمى العمر والذكريات، ورعشة الصدر التي ستظل تهتف بحرقة موجعة جارحة: أيها المولعون بالخيام، والمنافي، والعواصم التي لا تحن إلى الشتات كثيراً، ولا تفرح.. بالغرباء أبداً، ولا العابرين الذين يملكون أنصاف قلوبهم، وأنصاف عشقهم وحبهم، وأنصاف الرعشات التي تتأجج كالنار، وتومض كاللهب.. هناك عند سياجات الورد والدفلى وفلسطين!

أيها الغارقون في وجع التذكارات، وألم الحنين، وأرق الغياب، كيف يهون الوطن عليكم، والتراب يهون، والذكريات تهون، والأشياء،والأهل، وبحّات نايات الجبال الحزينة، وشقائق النعمان المغزولة بالحنين والدم تطأطئ هاماتها  على لهاث الذين يغادرون، ولا يتلفتون حتى نصف التفاتة للسلام، والوداع الأخير؟! كأنهم ما كانوا، ونحن مشغولون بما. لا يسر الخاطر، ولا يبعث النشوة في بقايا أمل تنتزعه مرارة الحدث من جذوره التي أضحت أقرب إلى الموت والذبول!

لا أيدي تلوّح بشالاتها على دروب العودة، لأن الدروب أخطأت جهاتها، والبوصلة ضيعت أهدافها، و(عائدون).. مات حُداتها، وصارت هي الأخرى في الغياب البعيد، البعيد! والذين يغادرون يحملون المخيمات وجعاً قاتلاً، ودامياً، حد الكارثة، والمستحيل!، فكيف بوطن سليب نأى حد الهوان والفاجعة؟! وكم قلنا، ونكرر قولة جارحة حد البكاء والدهشة: إذا لم تكن للقدس حرمة عند عبدة الطواغيت والمصالح، ولا للأقصى حرمة عند المليار ونصف من هياكل تدعي أنها صالحة ومؤمنة، ويشهد الله لو وصل البغاة إلى مكة والكعبة والمدينة، فلا جفن يرف مع الهوان؟! آه يا يسوع الناصري، ويا مريم التي تطل من نافذة كنيسة القيامة مذبوحة، وعاتبة، وأنتم أيها المصلوبون  بمرارة انكساراتنا المتعاقبة بين صليب الجلجلة، وهلال المآذن الذي يشيح بوجهه النازف دماً  وحسرة ومرارة عنا، لا تنتظروا شيئاً منا، ولا من قصائدنا وأشعارنا، ولا من حماسنا الخلبي الهادر، فتلك أشياء غدت في قواميس الوطنية أكذوبة كبرى، لا أساس لها من الصحة على الإطلاق!

بعد سبعة وستين عاماً على نكبة فلسطين، ثبت أننا نحن النكبة بعينها، والمأساة بتفاصيلها الدائمة، المستمرة، والملهاة النازفة بمرارة! لقد واتت الفرصة للعودة مرة واحدة يوم الخامس عشر من أيار.. يوم كان هناك فعلاً زحف مقدس للعودة، ثم انقلبت الآية حيث صقيع الشمال البعيد، يتجاوز قوارب الموت، وبحار الشتات الجديد ليصل ببقايا شتات القوم إلى منافي اللجوء الجديد، وحتى يأتي زحف مقدس جديد، فعلينا أن ننتظر ذلك: ببقايا أمل غارب وبعيد، ولكن يبقى اسمه (أملاً بعودة ما)!؟

العدد 1140 - 22/01/2025