جارتنا مريم

جارتنا مريم ريفية الطباع، لم تشغلها السياسة يوماً لأنها لا تنخرط في أمر لا يعنيها. مريم هذه صاحبة قدٍّ ممشوق وشعر كستنائي منسدل على كتفيها، يغازل دوماً أشعة الشمس ويسرق من بريقها الذهبي مؤونة لقادم الأيام، هي شديدة الانبهار بالطبيعة مما أعطى عينيها بعض الذبول، وابتسامتها ترسم شارات منسجمة مع غمزات خديها، إذ يصعب على الفنان التقاط سحر جمالها، لأنه أسير ملامحها التي تأخذه إلى موقع عميق في ثنايا خياله. انسحب شريط ذكرياتها ومر على مفردات شهدت بنفسها بعض مدلولاتها وعرفت البعض الآخر من حكايا جدتها، وأكثرها تأثيراً في وجدانها مفردات النير والكدانة والقمشة التي كانت تثير التساؤل لدى أحفادها، أدوات وضعت بصمتها مجبولة بالجهد الإنساني، وحجزت مكاناً  لها بالمتحف، ووهبت الحياة لمن ورثها من عدد وأدوات في أداء المهمة. كما لمعت مفردة من التاريخ السحيق هي مفردة السبي التي كانت لا تتوقف عندها عندما تطرق أذنيها مصادفة، عقدت مريم مقارنة بين مفردات لأدوات أخلت المكان لغيرها بحكم الضرورة استجابة للتطور، ومفردة السبي وما ارتبط بها من قطع الرؤوس وحوريات ملك الأيمان وتحطيم الأوابد التي حق عليها القول، تخاطرت مريم مع أقرانها للوقوف في وجه الطاعون، فرأتهم جماعات جماعات تتوارد كأنهم مدعوون إلى وليمة، وقبضات أكفهم مشدودة كي لا يفر التاريخ منهم، تذكرت مريم نهلة التي طوت الخمسة عشر عاماً من عمرها منهمكة بالدرس والرسم والموسيقا وتذكرت إصرارها على متابعة ما اعتادت عليه في حياتها، تذكرت أحمد وعلي وهاشم وبوسي وريما وكيف عبثت بأوراحهم سيارة مفخخة، وكيف امتزجت أشلاؤهم بأشلاء من كانوا عى موعد في أحد شوارع المدينة دون ترتيب لموعد مسبق، لملمت مريم شريط ذكرياتها على عجل عندما لمعت في مخيلتها صورة تحكي قصة، ورأت فيها الشباب والصبايا والجدود والجدات وهم يتواردون على شد الحبل بعزيمة لا تلين وسمعت ترنيماتهم التي يشتم منها رائحة الحياة، منهم من ينشد أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيل، وخبطة قدمكم عالأرض هدارة، أحست معها بجحافل شعب مصمم على الحياة الحرة الكريمة واصوات تنوح وتناجي الأحبة المهاجرين: يا هاجرين الدار ارجعوا  شمس العمر مالت عالغياب، وعالروزنا، كل الهنا فيها، فصاحت من أعماقها:

 سأعيش رغم الداء والأعداء

 كالنسر فوق القمة الشماء

مريم هذه كان منهمكة بأعمالها اليومية لا تفقه مفردة في السياسة جذبها هول الجريمة لفك طلاسم السياسة والولوج في بحورها، فاكتشفت أن كل أمة هي أمتان ظالمة ومظلومة، وقد غمرها سرور عظيم عندما لم تجد نفسها في عداد الأمة الظالمة، ومن مكتشفاتها أنها لم تجد، لمجرد خلاف في اجتهاد لقطع الرؤوس وأكل القلوب جذراً في التاريخ، ولا لتدمير مدارس وأوابد وتيتيم حقول. مريم، لفرط فرحتها بما اكتشفت، سارعت إلى جارتها وجارة جارتها وأبناء حيّها تطرح لهم على بساط البحث آخر مكتشفاتها في مجاهيل السياسة، فكانت كمن أراد بيع السلق لأهل سلقين، فتعلمت منهم أن لها أصدقاء في أقاصي الأرض كما أن لها أعداء كذلك، فانغمرت أعماقها طمأنينة وتفاؤلاً بقدوم فجر جديد.

العدد 1140 - 22/01/2025