الرواية ذاكرة المغلوبين

استلهام الروائي للتاريخ لا يعني إعادة سرد أحداثه كما حصلت في الواقع، مع العلم أن الرواية من أقدر الفنون الأدبية على تسريد العالم والتاريخ، فنحن لسنا بصدد أو بحاجة إلى تكرار التاريخ، أو تاريخ يعيد نفسه. والعودة إلى حاضنة التاريخ لا تقدم جديداً إذا لم تجب عن أسئلة الحاضر، لتساهم هذه الأجوبة في صياغة المستقبل بوصفه ماضياً سيأتي.

كل كتابة هي (قراءة للتاريخ) والتاريخ لا يكتب ولا يقرأ مرة واحدة، وإنما هو حي بتجدد الأنساق المعرفية المعتمدة في قراءته.

قراءة التاريخ خاضعة بالضرورة للتصورات المزامنة للحظة الكتابة، وقد كتب تحت وطأة أفكار مهيمنة في مراحل التدوين المتعاقبة، وهو بالتالي يعكس وجهة نظر كاتبه، أو لنقل تحديداً القوى الحاكمة التي لا تكتب ضد مصالحها، ولا تجيز إلا تعميم نمط تفكيرها، ولا تعترف إلا برجاحة عقلها والحلول التي تقدمها بوصفه منجزاً تاريخياً لا يعرف الخطأ.

الرواية تعني الكتابة عن الماضي (التاريخ)، وهذا يطرح إشكالية العلاقة بين الروائي والمؤرخ، والرواية والتاريخ، فالتاريخ حاضن الرواية، ولدت في رحمه، وهي ابنته، وكثيراً ما تصبح مرجعاً له، المؤرخ يستند إلى موثوقية مرجعية، تمليها الوقائع، متوخياً الموضوعية والأمانة في نقل الوقائع ما أمكن، وإن تعذر ذلك عملياً، فالموضوعية وهم وحقيقة.

المؤرخ والروائي يقارب كل منهما عمله بتحيزات مسبقة، تمليها عليهما الثقافة والمواقف، والتطلعات والأيديولوجية، وبالتالي رؤية العالم لكل منهما.

عمل الروائي وإن تقاطع مع المؤرخ في حقل الماضي، إلا أن له أدواته ووسائله وطرائقه التعبيرية ولغته التي تخرج عن وظيفتها الإبلاغية إلى وظائف أخرى فنية، أساسها الانزياح والتخييل والانفتاح الدلالي، لأن الرواية أصلاً عمل تخييلي بنائي في إطار من الواقعية، لا ترتهن لموضوعية الوقائع، لأن الروائي يعيد كتابة التاريخ عندما يقوم بتأويله وتقديمه عن طريق شخصيات حية من لحم ودم، محددة لها خصائصها الفردية، وسماتها المميزة، بعيداً عن عمومية التاريخ. كل ذلك تحدده زاوية الرؤية والبعد النظري المعرفي للروائي (حوارية المعارف) قل لي أين تقف أقل لك ماذا يمكن أن ترى؟!

(إذا كان التقدم هو تاريخ المنتصرين المستمر على جثث الضحايا، فإن التاريخ الوحيد الواجب كتابته، هو تاريخ الضحايا المتجانس في كل الأزمنة).

وعليه فنحن بحاجة إلى ولادة تاريخ آخر يقوم على العدل لا على الانتصار، على الحق لا على القوة، لأن جوهر المنتصرين هو الحروب والكوارث، والروح الإنسانية لا تظفر بسلامتها إلا بولادة تاريخ مغاير يدونه الروائيون، بما يملكون من حس إنساني، وتعاطف مع المضطهدين (الرواية تاريخ من لا تاريخ لهم).

مواجهة الصيغة الرسمية للتاريخ التي تصور تاريخ المنتصرين يقابلها رواية لجوهر حقيقي غائب يحرس ذاكرة المغلوبين ويدافع عنهم، مقابل تاريخ وذاكرة وأمجاد المنتصرين الذين يكتبون تاريخهم كما يشاؤون ولا يسمحون لضحاياهم بكتابة تاريخهم، فالمغلوبون لا يحتاجون مرة أخرى إلى تاريخ إلا إذا استثمروه في معارك لا تجدد هزائمهم، والروائي قادر ومؤهل لإنجاز هذه المهمة.

العودة إلى حضن التاريخ من قبل الروائي لا تهدف إلى إعادة سرده وإنما تحاول الإجابة عن أسئلة الراهن، هدفها تفجير وعي القارئ بما يملكه من مخزون قيمي وانفعالي كامن في اللاوعي الجمعي، ذلك المخزون يملك قدرة هائلة على التأثير في سلوك الأفراد والجماعات، ويحدد ردود أفعالهم، فنحن لا نتصرف وفق معطيات الحاضر، وإنما بفعل تراكمات الماضي التي تتقاطع مع حمولات ما نكون من معرفة وثقافة، وما نقرأ من أدب وما تكدس لدينا من تجارب.

النص الروائي بإحالاته الدلالية والجمالية يتفاعل مع المخزون المعرفي في ذواتنا كقراء، ليتجاوز النص ذاته إلى ما يقع خارجه، إلى سياقاته التاريخية التي أنتجته، فينتقل إلى الحاضر (الراهن) ليتجلى التاريخي فيه على نحو يفارق النص عند ذاك تاريخيته كما يفقد الواقع راهنيته لينشأ من خلال القراءة وبفعلها علاقة تشاركية تفاعلية تنتج موقفاً إدراكياً فاعلاً، يوجّه الراهن الذي يكونه المتلقي، وهنا تكمن عظمة الروائي في تجسير الهوة بين الماضي التاريخ والحاضر المعيش (تحيين التاريخ).

اختيار الأشكال الفنية والوعي الجمالي هو مكون أساسي من الوعي التاريخي، فالروائي لا يقدم الفائدة فقط، وإنما المتعة أيضاً، بطرائقه وأدواته، وأسلوبه ولغته، وعندئذ يصبح اختيار الشكل عملية تاريخية جمالية، تخدم التقدم. والانتقال من القديم البالي إلى الجديد الحديث، هو من أهم أسس التطور.

العدد 1140 - 22/01/2025