السياسات الحكومية لم تكبح دوافع هجرة الوطن

 واضح وجليّ أن المواطنة مفهوم حقوقي رافق نشوء الدولة في المجتمعات البشرية، بما يقتضيه واقع انتماء الأفراد إلى مكان ما، بكل ما فيه من جغرافيا وتاريخ وتراث وحضارة ولغة تكوّن جميعها هوية وطنية لمجموع أولئك الأفراد.

وقد عرّف علماء الاجتماع والقانون الدولة بأنها: (جماعة من البشر يعيشون في أرض معينة مشتركة مؤلفين هيئة سياسية مستقلة ذات سيادة).

وعلى هذا الأساس يُعرّف المواطن على أنه الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة ويحمل جنسيتها، ويكون مشاركاً في الحكم، خاضعاً للقوانين الصادرة عنها، متمتعاً بالتساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، ملتزماً بأداء مجموعة من الواجبات اتجاه الدولة.

وانطلاقاً من كل هذا، نجد أن ما يعيشه المواطن السوري منافٍ إلى حد كبير لما تحمله المواطنة في طياتها، إضافة إلى أن شعوره بالانتماء إلى الوطن، بما تقتضيه هذه المواطنة، قد بات هشّاً بحكم السياسات الحكومية المتّبعة منذ عقود، والتي ابتعدت بتعاداً فجاً وفظيعاً عن هموم المواطنين الأساسية واحتياجاتهم، مما جعلهم يلوذون بشكل أو بآخر بانتماءات ضيّقة (قبلية، عشائرية، عائلية، ودينية) علّها تشعرهم ببعض الأمان من جهة، وتكون لهم عوناً في وقت تخلت حكوماتهم عنهم تلبية لسياسات ونهج اقتصادي جعل الدولة تتخلى عن مسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، مما عزز شعور المواطنين بالغربة عن واقعهم وبلادهم، وقد زادت الأمور سوءاً منذ اندلاع الأزمة القائمة منذ نحو خمس سنوات، فبدل أن تنتهج الحكومات المتعاقبة سياسات مغايرة لما كان سائداً وسبباً في نشوب تلك الأزمة، لجأت إلى سياسات فاقمت نقمة الناس وغضبهم بشكل قهري واستفزازي، حينما صمّت آذانها عن مطالبهم في تحسين أوضاعهم المعيشية المتردية يوماً بعد آخر، بل وزادت في عذاباتهم وقهرهم وفقرهم، مما جعل غالبيتهم يشعرون بالاغتراب وانعدام الكرامة الإنسانية التي يحتاجها كل إنسان في وطنه كي يكون إنساناً فعّالاً بكل ما تعنيه الكلمة، وبالتالي شعوره بالانتماء إلى وطن يلوذ به حين تعترضه المخاطر والنوائب.

صحيح أننا في حرب تقتضي وتستدعي سياسات وإجراءات غير اعتيادية، مثلما تقتضي من المواطنين أن يكونوا عوناً لحكوماتهم في تلك الظروف، حينما تنتهج تلك الحكومات سياسات تتوافق وتتلاءم والظروف الراهنة بحيث تتبع ما يُسمى مثلاً باقتصاد الحرب، أو سياسات أخرى مشابهة تحتوي من خلالها أزمات المواطنين واحتياجاتهم التي فرضتها تلك الحرب غير الاعتيادية والتي لا مثيل لها في التاريخ من حيث التدمير والخراب والموت والتهجير والنزوح، وكل ما رافقها من مآسٍ يصعب ذكرها كاملة. غير أن كل هذا لم يحدث، بل سارت الأمور بالعكس ومازالت بشكل مغاير تماماً إلى أن وصل الأمر بالناس إلى تفصيل مغادرة الوطن والهجرة خارجاً طلباً لبعض أمانٍ وكرامة أهدرتها الحرب، مثلما أهدرتها السياسات التي لم تتوافق مع متطلبات صمود المواطن السوري.

1- انعدام الأمن والأمان بحكم الانفلات الأمني الناشئ عن الحرب من جهة، ومن جهة أخرى بحكم تسلط بعض الذين يتاجرون بالوطن والوطنية على مصائر الناس وحياتهم، أو بسبب من يعيثون فساداً من عصابات الخطف والسلب والنهب دون رقيب أو حسيب،بسبب انشغال السلطات المعنية بأمور الحرب.

2- تفشي الفساد والمحسوبيات في الوظائف والدوائر والوزارات وعموم الهيئات الحكومية بشكل لافت وأكبر بكثير مما كان قبل الأزمة، وبالتالي سيادة فئة قليلة متسلطة على حياة الناس ومستقبلهم الناس فباتوا يشعرون بالخوف والقلق لتراجع مبادئ العدالة والحق والقانون.

3- سياسة الاعتقالات غير المدروسة وغير المُبَررة في كثير من الأحيان، إذ بات بعض من يُعتَقلون يمضون أشهراً عدة إن لم يكن سنين دون النظر في وضعهم، في أحسن الأحوال، أو تجري توجيه الاتهامات لهم بشكل اعتباطي ودون مستندات إدانة حقيقية، فقط استناداً إلى تقارير قد تكون كيدية ممن وجدوا الفرصة المناسبة لإذلال الناس وإهانتهم، مما جعل الكثيرين يفقدون عملهم أو دراستهم أو حتى حياتهم.

4- الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي الذي تعيشه الغالبية العظمى من السوريين بحكم تقليص الدولة لدورها الاجتماعي والرعائي، لاسيما في هذه الظروف التي تمر بها البلاد والعباد، مما دفع بشرائح كبرى إلى ما دون خط الفقر، والشرائح المتبقية ربما تعيش على الكفاف أو أقل من ذلك بكثير.

5- تحكّم تجار الحروب والأزمات بقوت المواطنين دون رادع من ضمير أو أخلاق، في ظل غياب القانون والمحاسبة والرقابة الحكومية سواء على التجّار أو السوق، رغم أن أولئك التجّار لا يقلون إرهاباً عن أولئك المسلحين الذين يقتلون عدداً ما، بينما أولئك التجّار يقتلون الناس جميعاً بجشعهم وطمعهم اللامحدود الذي طال الغذاء والدواء…إلخ.

6- ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات مرعبة مُشكّلة جيشاً كبيراً من العاطلين عن العمل بحكم التخريب والدمار الذي طال البنى التحتية والمرافق والمعامل، إضافة إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين في القطاع الخاص بحجة تقلّص الإنتاج وما شابه، مما أدى إلى ارتفاع معدل الفقر في المجتمع، وبالتالي انتشار الأخلاقيات التي تُفرزها البطالة والفقر بين الناس، لاسيما فئة الشباب، وما يُرافق ذلك من سلوكيات قد تؤدي بالبعض إلى اللجوء لحمل السلاح مع المجموعات الإرهابية طلباً للمال اللازم لوأد الجوع والفقر، أو سلوك طرق الانحراف والدعارة لدى بعض النساء من أجل إسكات جوع أبنائهن بعد أن فقدن المعيل الأساسي سواء بالقتل أو الاختطاف أو الاعتقال أو.. وهذا أحد أهم أسباب انتشار تلك الظاهرة بشكل فاضح في المجتمع.

7- تدني مستويات الأجور والمعاشات لدى العاملين في الدولة إلى مستويات لم يعودوا معها قادرين على تلبية الحد الأدنى من احتياجات الأسرة الأساسية كالخبز والدواء، فكيف بباقي مستلزمات الحياة من تعليم وسواه.

8- رفع الحكومة لأسعار معظم السلع والخدمات الأساسية من خبز وماء وكهرباء واتصالات ودواء وو.. بشكل ارتجالي وغير مقنع، بذريعة الحصار والعقوبات الاقتصادية، مما جعل الحكومة تتحمّل أعباء لا قدرة لها على احتمالها، فكانت جيوب المواطنين أحد الروافد الأساسية لخزينة الدولة بدل أن تتجه لكبار المضاربين والسماسرة والتجّار الذين جنوا الأرباح والأموال الطائلة نتيجة استغلالهم للأزمة ومتاجرتهم بآلام الناس وجوعهم.

9- عدم العدالة في توزيع المعونات الدولية المخصصة لأولئك الذين دمّرت الحرب كل إمكانية لعيشهم بأدنى حدود الكرامة الإنسانية، إضافة إلى سرقة الكثير من تلك المخصصات من قبل القيّمين على توزيعها.

10- التشرد والنزوح الذي طال أعداداً كبيرة من السوريين الذين لم يجدوا سوى الشوارع والأرصفة والحدائق ملاذاً لهم في ظل عدم استيعابهم في مراكز الإيواء، وفي ظل الارتفاع المرعب لإيجار البيوت دون أن تتخذ الحكومة موقفاً حاسماً في هذا الملف الشائك، بحيث لم يجد تجّار السكن رادعاً يوقفهم عن جشعهم ولا إنسانيتهم.

11- تدني مستويات التعليم بكل مراحله لاسيما في ظل الظروف الناشئة، إضافة إلى عدم تأهيل الكوادر المتخصصة من أجل التصدي لمثل تلك الظروف، فضلاً عن ارتفاع نسب التسرب المدرسي لاسيما في صفوف الذكور الذين لجؤوا للعمل من أجل تأمين قوت أسرهم، وبالتالي انتشار ظاهرة عمالة الأطفال من جهة، وتشردهم من جهة أخرى مما يشكل خطراً كبيراً على مستقبلهم ومستقبل البلاد، دون أن تولي الحكومة اهتماماً ضروريا وملحاً بهذا الجانب المصيري.

باعتقادي إن مجمل هذه الأمور وغيرها الكثير مما لا يسمح المجال هنا لتناوله، كان سبباً أساسياً وهامّاً في هجرة الغالبية العظمى من السوريين الذين باتوا مادة دسمة للإعلام الغربي من جهة، وإبراز تعاطف الغرب الكاذب من جهة أخرى. وبالتالي فإن السياسات الحكومية غير المواكبة للحرب ونتائجها وكوارثها كانت وما زالت سبباً مشاركاً في دفع السوريين للهجرة، وإفراغ البلاد من أهلها وكوادرها التي تحتاجها من أجل تجاوز ما ستخلّفه تلك الحرب المجنونة، في حال انتهت.

فهل تعي حكومتنا نتائج سياساتها التي نبهت إلى خطورتها ونهت عنها الأحزابُ السياسية ومنظمات المجتمع المدني المعنية؟

العدد 1140 - 22/01/2025