إلى اللقاء
كأنها كانت تنتظرني..
ما إن خرجتُ من باب الدار، حتى شبكت ذراعها بذراعي، واقتلعتني بقوة نعومتها من عقر يأسي، منتحية بي من عالم إلى عالم..
من عالم الأسى والضيم والتوعّد،إلى عالم الودّ والوعد والورود..
من عالم ترويع الناس وسحقهم، إلى عالم مسح عرق خوفهم والتماس هلال أمانيهم.
لأنسام صباح هذا اليوم (17 حزيران/2015م الموافق ل/1 رمضان/1436/ه من السنة الخامسة للحرب (التآمرية) الكارثية على سورية).
ملمس الحرير..
همس العصافير..
ورفيف الفراشات!
-1-
طويلاً.. عميقاً.. ووجيعاً تحادثنا،(أنسام) وأنا..
طويلاً.. عميقاً.. ووجيعاً تهامسنا..
مئات الأمتار تهامسنا..
عشرات الأشجار تهامسنا..
شجيّات الهموم والأفكار تهامسنا.
بطول الدرب وعدد الحاصدات والحاصدين والعصافير التي التقيناها، من بوابة بيتنا إلى طريق (شامنا) تهامسنا..
بعمق الخطر الذي استباحنا بلداً وشعباً، من العجوز إلى الوليد، ومن الوريد إلى الوريد تهامسنا..
بوجع الأخت.. بوجع الزوجة، بوجع الحبيبة.. ووجع أم تثكل أبناءها شهيداً تلو شهيد تهامسنا.
-2-
قبل أن ينقضي لقائي ب (أنسام) ويحين وقت فراقنا، كلٌ إلى طريق..
هي إلى مواصلة جولتها الصباحية، على كريم الأحياء والأشياء والربوع والبطاح.
وأنا إلى عملي في (شآم) المجد، حاضرة التاريخ ومهد الأبجدية. حمّلتها سلاماً، وأودعتني وصيّة..
سلاماً من الأهل والتين والعنب والقمح والزيتون والرمان، في (الحقف) و(الثعلة) و(خلخلة) و(أم حارتين) و(أم الزيتون) و(أم الرمان)، وسائر قرى (جبل العرب). إلى جميع أخيار الناس والأجناس في (سوريتنا) سهلاً وساحلاً وجبلاً. خاصة إلى أهلنا واللوز والسماق و.. في (قلب اللوز) و(نيابل) و(كفر كيلا) وكل ضِيَعِ ورباه وزواياه (جبل السمّاق).
ووصية أنسام لي، مع عموم السوريين الوطنيين فكراً وساعداً وضميراً،أن نكظم الجراح، ونتشبّث بالكفاح والأمل. حيث البقاء – بعد الله – للأقوى.. ولا أرانا ، على مقدار من الجهل واليأس و الظلم والظلامية، إذ نعزو القوة للشر وللباطل، استأنفت أنسام رافعة قوة همسها في سمعي وفهمي، ونجرِّد الخير والحق منها!
-3-
ببساطتها وطيبتها وعشقها لوطنها قلباً وروحاً وقالباً، كانت أنسام تذكرني ب (أجفان) السمراء، صديقتي التي اقتلعها الظلاميون المسلحون، مع أسرتها (باسم الدين) وهجّروهم، ثم استولوا على منزلهم ومالهم وتعب عمرهم..
تذكرني أنسام بدفء لمسات أجفان..
برقّة همساتها..
ب..
وها هي بارتدادها إليّ تضمني مودّعة. المرّة تلو المرّة.. تذكرني باحتفاء أجفاني بالوداع. الوداع الذي ما أردتُ قطع رزقه من قاموس حياتي، فأبقيته على كرسي مصطلحه، مكتفياً بتجريده مما في حوزته من مهام وصلاحيات وقُبَل، وتجييرها إلى (اللقاء)!