في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضدّ المرأة
عنف مضاعف ومستمر! يحلُّ الخامس والعشرون من تشرين الثاني، اليوم العالمي لمناهضة العنف والتمييز ضدّ المرأة، الذي أقرّته الأمم المتحدة عام1999 بالقرار رقم (54/134) ودعت فيه الحكومات، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية لتنظيم نشاطات ترفع وعي الناس حول مدى حجم القضية وتأثيرها على المجتمعات كافة. يحلُّ هذا اليوم الذي كنّا نحييه دائماً للمطالبة برفع كل أشكال العنف والتمييز ضدّ المرأة ورفضه اجتماعياً وقانونياً وووو..
لكن، بكل القهر والأسف، يحلُّ هذا العام والمرأة السورية ما زالت ترزح تحت ضغوط أشكال مختلفة ومتعددة من العنف والتمييز ضدها، والمستمر مع استمرار الحرب الدائرة في البلاد منذ ما يزيد عن السنوات الخمس بكل ما جرّته من ويلات وكوارث سواء التهجير أو النزوح أو موت أحد أولادها أو أحد أفراد أسرتها، يُضاف إلى كل هذا الاعتقال والخطف والاغتصاب الهمجي على مرأى من عيون أولادها وأقاربها إذ تموت بعد ذلك نفسياً وروحياً وحتى اجتماعياً بحكم القيم المعتبرة أن المرأة مرتكز الشرف الأساسي وكل ما عداه طبيعي.. فضلاً عن بيعها في أسواق النخاسة أو رجمها حتى الموت في ظاهرة لافتة ومرعبة تعيدنا بلا أدنى شك إلى عصور الإماء والجواري.
ولم يقف الأمر عند هذه الحدود، بل تعداها لخسارة غالبية النساء تعب عمر بأكمله وهي تبني أركان بيتها وأسرتها ركناً فآخر، في حين أصبحت اليوم تجوب العراء بلا مأوى ولا سند ولا لقمة تسد رمقها وأطفالها، مما جعل العديد من الشوارع تشهد وجوداً لافتاً لامرأة وبضعة أطفال بعضهم رضّع يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في حرّ الصيف وقرّ الشتاء، إضافة إلى أخريات اتخذن وأزواجهن العجزة أرصفة الشوارع ملاذاً للإقامة والنوم في مشهد قاسٍ وغريب إلى حدّ ما على المجتمع السوري رغم ارتفاع نسب التسوّل حتى قبل الحرب..
كما لا يمكن إغفال تعرّض مؤسسة الزواج لهزّات وانتكاسات صارخة مهّدت الأحداث لها بسبب الاختلاف في المواقف والآراء السياسية ما بين مؤيّد ومعارضٍ في الأسرة ذاتها سواء بين الزوجين أو بينهما والأولاد، مما رفع نسب الطلاق التي ارتفعت مع تطورات الحرب، وهروب الكثير من الأزواج من مسؤولياتهم بذرائع واهية بعضها له علاقة بالأحداث، وبعضها الآخر ذاتي، وجد في الوضع القائم ملاذاً للهرب.
يُقابل ذلك انتعاش تعدد الزوجات والزواج العرفي لاسيما في المناطق الساخنة، أو بحكم عدم قدرة العديد من الشباب على تسجيل عقد الزواج في المحاكم الشرعية نظراً لوضعهم الحرج بشأن الخدمة العسكرية، ومعروف تماماً ما لهذا الزواج من آثار سلبية على المرأة أولاً، ثمّ على الأطفال الذين سيظلون إلى أمد غير معلوم مكتومي القيد وبلا أدنى حقوق تخوّلهم حتى لدخول المدارس. ولا يمكننا أن ننسى أو نتجاهل ما أصاب النساء والفتيات السوريات اللواتي تعرّضن لشتى أنواع الاتجار بالبشر في مخيمات اللجوء تحت مسميات مختلفة للزواج، أو على مستوى طلبهن لمهن فيها امتهان واضح وجلي لكرامة المرأة وإنسانيتها.
وهنا أيضاً لا يفوتنا مشهد فتيات في مقتبل العمر لم يتجاوزن بعد مرحلة الطفولة والمراهقة منتشرات في شوارع وأمكنة باتت معروفة ومشبوهة وهنّ ينتظرن من يأخذهن لمتعة تسد بقيمتها جوع إخوة وربما أبوين، بعد أن تكون قد خسرت طفولتها وبراءتها، وتشوّهت إنسانيتها بتشوّه القيم التي دفعتها إلى تلك الطريق مرغمة لا خيار أمامها في ظل غياب الوعي الأسري والاجتماعي، وكذلك في ظل انعدام تقدير الذات في زمنٍ، قبل أن تشوّهه الحرب، شوّهته قيم التسليع الذي طال حتى الجسد، وحرية السوق المنفلت من كل رقابة وعقال، فكان أحد أهم الأسباب التي أوصلتنا إلى حرب عبثية جرفت سيولها وويلاتها كل القيم والكرامة الإنسانية مثلما جرفت معها السلم والأمن والأمان.
وهناك عنف آخر لا يقلُّ قسوة ومرارة، ألا وهو الغلاء الفاحش الذي اغتال كل إمكانية للبقاء على قيد الحياة ببقايا كرامة التهمت الحرب غالبيتها، غلاء طال حتى رغيف الخبز الذي كان ملاذاً للفقراء والمعدمين، فصار اليوم عبئاً ثقيلاً لاسيما لمن يرعى أفواه صغار دائمي التطلب بحكم احتياجات الجسم ونموّه، غلاء تكسّرت تحت سنابكه كل مقدرة وإمكانية للعيش بالحدود الدنيا بعيداً عن الذل والمهانة والعوز، سواء للسكن أو الأكل أو المرض أو الدفء ونحن نلج شتاءً لا شكّ أنه استثنائي مناخياً ومادياً بحكم انعدام إمكانية تأمين مستلزمات التدفئة المطلوبة.. وشئنا أم أبينا فإن المرأة عموماً هي المسؤولة عن تأمين احتياجات الأسرة وتنظيمها باعتبارها ربّة البيت في أفضل الأحوال، فكيف إذا كانت هي المعنية مادياً واقتصادياً بتلك الاحتياجات، خاصة في زمن الحرب التي أجهزت على غالبية الرجال موتاً وقتلاً واعتقالاً وخطفاً وربما هجرة للخارج بحثاً عن لقمة العيش التي افتقدوا إمكانية تأمينها في بلدهم، وبذلك باتت المرأة تحمل منفردة أعباء إضافية مجهدة وعنيفة روحياً ونفسياً وجسدياً ومادياً في مجمل الظروف التي أشرنا إليها أعلاه، والتي تقف الحكومة حيالها موقفاً لا مبالياً بكل عنفوان وعناد، وذلك لمصلحة ثلّة من تجار الأزمات وأثرياء الحروب الذين لا يقلون في إجرامهم عن أولئك المسلحين من مختلف الاتجاهات والفصائل إن لم يكن أكثر، باعتبارهم يقتلون غالبية البشر نفسياً وصحياً وإنسانياً بلا خسارات تذكر لجيوبهم المتخمة من وجع الملايين وجوعهم وقهرهم بلا رادع ولا رقيب.
إن مجمل هذه الأوضاع التي تعانيها المرأة السورية جعلها أولوية أمام الحركات النسوية ومنظمات المجتمع المدني المعنية، وكذلك أمام الأحزاب التي توقن وتدرك أن لا حرية ولا ديمقراطية ولا تقدّم يُذكر في مجتمع نساؤه معنّفات مسلوبات الحقوق والإرادة، وبالتالي لا بدّ من إلقاء الضوء عليها ومحاولة معالجتها بمختلف السبل والوسائل الممكنة، وضرورة تناولها من قبل وسائل الإعلام لتكون حاضرة سواء في الخطط والبرامج الحكومية، أو أمام المجتمع الذي تمادى في غيّه وظلمه للمرأة في زمنٍ كانت تأمل فيه أن تصل إلى بعض آمالٍ معلّقة منذ أمد بعيد مثل تعديل القوانين التمييزية ضدّ المرأة وعلى رأسها قانونا الجنسية والأحوال الشخصية، والوصول إلى دستور مدني- علماني خال من كل أشكال التمييز، يساوي بين جميع مواطنيه في الحقوق والواجبات، بحيث تتوافق معه مجمل القوانين والتشريعات باعتباره المرجع التشريعي الأساس، إضافة إلى الضغط على الحكومة لرفع تحفظاتها عن روح اتفاقية إلغاء أشكال العنف والتمييز كافة ضد المرأة (سيداو) وهي المواد الهامة والأساسية في الاتفاقية التي وقعّت وصادقت عليها سورية (لاسيما المادة 16 منها والخاصة بالزواج والعلاقات الأسرية).
فليكن يوم 25/11 هذا العام يوماً عالمياً تضامنياً مع المرأة السورية أينما كانت، لما حملته من مآسٍ وآلام تحملتها صامدة صابرة على وجعها والقهر في محاولة منها لاستمرار الحياة مهما كانت الصعاب.