شوبنهاور… فيلسوف الإرادة والتشاؤم
ولد آرثر شوبنهاور في عام 1788 في مدينة دانزج الألمانية، لأسرة تبدو مثالية، في كنف والدين يتمتعان بمكانة اجتماعية مرموقة، فقدكان أبوه تاجراً ناجحاً، أما أمه فهي الروائية والقاصة المعروفة جوهانا شوبنهاور، ولكن هذه النشأة النموذجية التي أتيحت له لم تكن سوى مرحلة عابرة خادعة سرعان ما ولت تاركة الفتى النبيه ابن السبعة عشر ربيعاً، ليحظى بنصيبه من قدر العظماء والمشاهير، ويواجه سوء الطالع الذي بدأ بوفاة والده منتحراً في عام
1805 وتدهور علاقته بأمه التي لعلها وجدت في وفاة زوجها البعيد عن أجواء الثقافة والأدب فرصة مؤاتية للانطلاق والشروع بحياة جديدة تلائم ميولها وتطلعاتها، لينتهي بهما الأمر إلى الانفصال والقطيعة التامة، ولتبدأ مرحلة العزلة التي لازمت شوبنهور بقية حياته بلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ولد وأحياناً بلا أصدقاء أيضاً، هذه العزلة التي كان لها أبلغ الأثر في تكوين شخصيته وآرائه، فعرف بميله إلى الاكتئاب والقلق والتشاؤم، ووقوعه في براثن هواجس الشك والارتياب بالآخرين حتى قيل إنه كان ينام ومسدسه تحت وسادته.
في تلك الأثناء كانت أوربا بأسرها تعيش أسوأ أيامها، وتكابد شقاء حقبة ما بعد الثورة الفرنسية التي آلت إلى هزيمة نابليون بونابرت في واترلو أمام الجيوش الأوربية المتحالفة ضده، بعد سلسلة حروب ومعارك أحالت عموم القارة يباباً ودماراً من موسكو إلى لندن.
في هذا الجو العام الشاحب المخيم على حياة وعقول الناس، مضافاً إلى الجو الأسري الأشد قتامة الذي اكتنف يفاعته، تابع شوبنهاور دراسته الجامعية وتحصيله المعرفي إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، ليخرج إلى العالم في عام 1818 بكتابه الأشهر والأهم (العالم كإرادة وفكر) الذي ضمّنه خلاصة فلسفته وزبدة آرائه، هذا الكتاب العظيم الذي لم يلق طوال العشرين عاماً التالية لنشره أي رواج أو نجاح يذكر. وحين أبلغ شوبنهاور بأن عدداً من نسخ الكتاب قد بيعت كورق تالف لاستخدامات الرزم والتغليف، علّق غاضباً في مقالة حادة بقوله الشهير: (إن كتاباً كهذا أشبه بالمرآة، إذا نظر فيها حمار فلن يرى حتماً صورة ملاك)! ورغم كل التجاهل الذي قوبل به كتابه هذا فقد تابع شوبنهاور خوضه غمار عالم الفلسفة، وأتيحت له الفرصة ليخطو خطوة أخرى على الطريق الطويل، حين دعي في عام1823 ليحاضر في جامعة برلين حول فلسفته. حينذاك، لم تلق أفكاره الجريئة القبول المنشود في أوساط الطلاب المأخوذين بسطوة الفيلسوف العملاق هيغل، فاعتذر لاحقاً عن متابعة محاضراته وهجر الحياة الأكاديمية صابّاً جام غضبه على فلسفة الجامعات ممثلة بهيغل، الذي ما لبث أن توفي بالكوليرا التي اجتاحت برلين في عام ،1831 فيما نجا منها شوبنهاور، وتابع رحلة صعوده الشاقة التي لم تخلُ من خيبات أخرى لم تزعزع إيمانه بأهمية أفكاره، تمثلت في الوقع الباهت لكتابيه (مشكلة الأخلاق الأساسية) الذي نشره عام 1841 و(النتاج والفضلات) الذي نشره في ،1851 وكلاهما لم يلقيا الصدى المأمول في أوساط المجتمع الثقافي الذي لم يكن جاهزاً بعد لتقبل أفكاره وفلسفته. ثم شيئاً فشيئاً بدأت الأوساط الفكرية والفلسفية الألمانية والأوروبية عموماً تدرك أهمية أفكاره وتعي عمق فلسفته، إلى أن بوأته لاحقاً مكانته اللائقة على ذروة المجد ليتمتع في آخر سنوات حياته بشهرة ذائعة الصيت في العالم بأسره، فمات عام 1860 وقد قرت عينه ببلوغه مراده محققاً نبوءة الشاعر العظيم يوهان فون غوته (1749- 1832) الذي قال لأمه جوهانا – وكانت تربطها به علاقة صداقة – يوماً: (سيكون لولدك شأن عظيم وسيغدو رجلا مشهوراً).
يبقى كتاب (العالم كإرادة وفكرة) هو النواة الأساسية التي قامت عليها معظم آراء شوبنهاور الفلسفية، وأكثر ما يميز هذا الكتاب هو سهولة الأسلوب وبساطة ووضوح الفكرة التي غالباً ما وردت معززة بأمثلة عدة تزيدها وضوحاً وسطوعاً، بخلاف معظم الكتب الفلسفية التي يغلب عليها الغموض عادة. وقد هاجم في هذا الكتاب أصحاب المذهب المادي متسائلاً: (كيف يمكننا أن نفسر العقل بأنه عبارة عن مادة، ما دمنا لا نستطيع معرفة المادة إلا عن طريق العقل؟). ويسترسل شارحاً فكرته (العالم كإرادة) رافعاً من شأن الإرادة على حساب الإدراك والفكر (لا أحد يتعرض للخطأ أكثر من الشخص الذي يحكّم عقله وفكره فقط) معتبراً أن الإنسان مسوق بإرادته لا بعقله، سواء أكانت هذه الإرادة المهيمنة واعية أو لا واعية، مع التأكيد أن اللاشعور هو الحالة الأصيلة للأشياء، ممثلا على ذلك بأمثلة عدة، منها دوام تذكر الإنسان لنجاحاته وسرعة نسيانه لفشله، وهنا تجعل الإرادة اللاواعية من الذاكرة خادمة لها. ثم ينتقل للبحث عن دوافع الإرادة ليجد أن الغرائز بمختلف أشكالها هي المحرك الأساس لسلوك الإنسان الذي توجهه الإرادة لا العقل، وما البراعة العجيبة التي يبديها الحيوان في حماية نفسه من الخطر، والتي نسميها فطرة تارة وغريزة تارة أخرى، سوى دليل على أن الإرادة أسبق من العقل، إنها إرادة الحياة التي تحفظ بقاء الفرد، أما ضمان بقاء النوع بمجمله فيستلزم تجلياً أخطر للإرادة هو إرادة التناسل التي يرى فيها شوبنهاور حيلة ابتكرتها الطبيعة لقهر الموت وضمان الخلود العظيم. ونظراً لخطورة هذا الدور الذي تضطلع به فهي تمثل القطبة المخفية لسائر الأعمال والسلوك. وما مشاعر الحب التي نتغنى بها سوى مظهر من مظاهر انخداعنا بهذه الحيلة المتحررة إلى حد بعيد من رقابة العقل وسيطرته. ويتابع استعراضه للغرائز المحركة للإرادة (الجوع.. العطش.. النوم..) ليصل إلى نتيجة مفادها أن الحياة.. حياة الإنسان، هي سلسلة لا نهائية من الرغبات الناجمة عن الإرادة، ما أن يُشبع إحداها حتى تطل عليه أخرى تطلب الإشباع عبر التحقق، هذا السعي الدؤوب المتواصل وراء إشباع رغبات الإرادة يتطلب المزيد من الكد والعمل، وبالتالي سيؤدي به إلى المزيد من الشقاء والألم، كل هذا يؤكد حقيقة كبرى مؤداها أن الحياة ما هي إلا شرّ مطلق، باعتبارها سلسلة سرمدية من العذاب والآلام مختزلة في الألم الأعظم الناجم عن فكرة حتمية الموت وعذاب ترقّبه، ولذلك فلا سبيل إلى الخلاص إلا بإحدى وسيلتين: إما بوقوع الموت أو بالوصول إلى طريقة ما تمكّن العقل من السيطرة على الإرادة، فيتحرر الإنسان من وطأة متطلباتها، وهذا المقام لا يمكن بلوغه إلا بالفلسفة.. سبيل الإنسان إلى تأمل الحياة تأملا عقلياً خالصاً. من هنا يركز شوبنهاور على أهمية دور العباقرة، ويرفع من شأن المفكرين وأصحاب العقول العظيمة الذين هم وحدهم قادرون على قهر الإرادة بالمعرفة، فالعبقرية هي القوة التي تمكّن الإنسان من نبذ مصالحه ورغباته الآنية في سبيل الفوز بالمعرفة الخالصة. عند هذه النتيجة البالغة الأهمية يبدو جلياً مدى تأثر شوبنهاور بفكرة النيرفانا وبغيرها من تعاليم الفلسفات الشرقية التي درسها في مرحلة مبكرة من مسيرته، وتنبأ بغزوها لأوربا لأنها أعمق سبراً لأغوار النفس البشرية وأنضج إدراكاً لمكنوناتها.
أكثر ما يؤخذ على شوبنهاور ثقته المفرطة بصواب آرائه التي غالباً ما تجنح نحو الغلو والتطرف، وتميل إلى إصدار الأحكام الحادة القاطعة إزاء مسائل حساسة، كما في نظرته الدونية للمرأة التي يتجلى فيها مدى تأثره بعلاقته السيئة بأمه، وهذا المثال يؤكد ضرورة الإلمام ببعض مفاصل سيرة كل مبدع وأخذها بعين الاعتبار عند دراسة نتاجه الفكري وتقييمه.
لقد قال شوبنهاور يوماً: (لا يمكن تلقي الأفكار الفلسفية إلا من مبدعيها أنفسهم)، وانطلاقاً من هذا المبدأ لا يمكننا الإحاطة بفلسفته – على بساطتها ووضوحها قياساً إلى غيرها من الفلسفات – إلا بالدراسة الشاملة المعمقة لكتبه ومقالاته التي تزخر بأفكار ورؤى فيها من الأصالة والعمق، حول العديد من القضايا الأخرى كالدين والسياسة والفن، ما يستوجب تقبّل الصبغة السوداوية التشاؤمية التي اشتهرت بها فلسفته، أو على الأقل تجاوزها.