هواجس في الغربة والاغتراب

أثارت الأزمة السورية أقلام السياسيين والمفكرين والأدباء والإعلاميين، للتعبير عن أزمة ما تزال تشغل العالم، وما تزال إفرازاتها تتجمَّع في قلب سورية وفي قلوب وأفئدة المواطنين المخلصين لها..!

يتساءل من أوقد حُبّ الرحيل واجتياز حدود الوطن إلى (بلاد الأحلام الجميلة)، عن الغربة والاغتراب والمفارقة بين هذين المصطلحين أو المفهومين العائدين من التاريخ، لينعشا الكثير من أرواح الناس الحالمين بغدٍ مشرق خوفاً من مواسم حصاد الإرهاب، فيهاجرون أو يغرّبون إلى بلاد الفواكه المغلّفة والحصول على حصة من اليورو لتأمين استمرار الحياة، والجلوس تحت سقوف الـ (كمبات) وتحت أنوار اللمبات وانتظار الحصول على الإقامة… وجمع الشمل..!

وفي أول يوم للتنفس براحة لمهاجر تجرَّع آلام الرحيل والعذاب المشوب بالمخاطر، تبدأ هواجس المغيب تطلّ عليه برعاية الشوق وفتح باب الذاكرة على ماضٍ، وإن كان ملوثاً بالقهر والتعب وعدم الراحة والاستقرار، إلاَّ أنه (هنا) في ألمانيا أو هولندا أو في أبعد جزيرة، يبدأ تاريخاً جديداً قابلاً لتسجيل الموت أو لبداية حياة محمولة على أجنحة الوعد بمستقبل زاهر..!

عالمان أو فكَّا كمَّاشة يضغطان على ذاكرة كانت ميتة فأحيتها الغربة. عالمان متناقضان: الأول عالم طارد، والثاني عالم جاذب.. ولا ينتهي الصراع بينهما، بل سينقسم المهاجر إلى نصفين غير متكافئين: نصف يتكوَّن من الشوق والحنين، يتجرّع آلام البُعد وهجر الوطن والأهل والأسرة والأصدقاء.. ونصف يحاول الخروج من حصار الذات وفتح كوَّة لدخول الأمل في تحقيق حياة أفضل والتخلص من عذابات كانت تلتهم الأحلام والرغبات والآمال..!

تتجاذب الاغتراب تعاريف عدة منها: (الشعور بالعزلة.. انعدام العلاقات الحميمة بين الناس.. انفصال الفرد عن الأنا الواقعية بسبب الانغماس في التجديدات، وضرورة التطابق مع رغبات الآخرين ومطالب المؤسسات الاجتماعية).

ويرى أفلاطون أن الاغتراب هو التأمل الحق بحالة الكائن الذي فقد وعيه بذاته فصار الآخر مغترباً عنه. وللاغتراب مظاهر عدة، فيأتي بمعنى الارتحال إلى مكان آخر بقصد الحصول على لقمة العيش، أي الانتقال من مكان إلى مكان، ومن أسلوب حياة إلى أسلوب حياة، ومن ثقافة إلى ثقافة. والاغتراب بالدلالة الوجودية هو عدم فهم الإنسان لما يجري في نفسه وفي ما حوله ثمَّ عدم مشاركته في التخطيط لحياته ومستقبله.

ويرى (روسو) أن تغترب يعني أن تعطي أو أن تبيع، فالإنسان الذي يصبح عبداً لآخر لا يعطي ذاته، وإنما يبيعها على الأقل من أجل بقاء حياته.

وهناك ثلاثة أبعاد للاغتراب هي: (البعد الحسّي، والبعد القيمي، والبعد الميتافيزيقي). أما كارل ماركس فيرى أن هناك أربعة أسباب للاغتراب، وهي ذات طبيعة اقتصادية مادية كامنة في علاقات الإنتاج والهيمنة الطبقية:

1 -يغترب الإنسان عن طبيعة عمله نفسها، فبدلاً من أن يكون العمل مصدراً لتحقيق ذاته وتجسيداً لقواه الإبداعية، فإنه في المجتمع البرجوازي يصبح شكلاً من أشكال السخرة.

2 -يغترب الإنسان عن عمله في المجتمع الرأسمالي لأنه يبيعه.

3 – يغترب الإنسان عن الآخرين لأن جوهر العلاقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي هو التنافس.

4 -يغترب الإنسان عن الطبيعة الإنسانية الجوهرية، ويغترب أيضاً عن فكرة الكل ، وما يميز الإنسان عن الحيوان، هو أن الحيوان يتكيّف مع بيئته. أما الإنسان فإنه يسيطر عليها بوعي. وتحت حكم الرأسمالية، يفقد العامل عنصر السيطرة ويصبح في مرتبة الحيوان.

كما يرى ماركس أيضاً، أنه يمكن إلغاء حالة الاغتراب من خلال الثورة وتغيير علاقات الإنتاج فيصبح العامل حُرّاً، ليعبر عن إمكاناته الإبداعية التي يجسدها ثمرة عمله، ولن تصبح حياة الإنسان شظايا مفتتة، بل سيصبح كلاً متكاملاً..!

هناك فرق بين الغربة والاغتراب. فالغربة إن كانت تعني الهجرة أو النزوح أو الانتقال من مكان إلى مكان، فهي تشير إلى (الخارج الإنساني)، بينما الاغتراب يشير إلى (الداخل الإنساني).

العدد 1140 - 22/01/2025