من حكايات سـليمان
لم تكن ثمة حروب مستعرة في خمسينيات القرن الفائت حين سيق سليمان إلى الجيش بعد حضور دركي إلى منزل أهله، الذين قاموا بإطعام الدركي وحصانه وتأمين دخانه، بما يعادل الإكرامية التي تعطى هذه الأيام للعنصر الذي يتجشم عناء تبليغك بأمر ما ثمن فنجان قهوة إضافة إلى ثمن بنزنات الموتور الذي يمتطيه.
لم تكن ثمة حروب تجعل السوق إلى الجيش يعني إلغاء احتمال العودة، لكن ذكريات سفر برلك وضياع أفواج الشباب الذين ساقهم العثمانيون إلى حتوفهم في الصحارى والجبال البعيدة والغريبة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، هذه الذكريات بقيت تجثم على عقول الناس فصاروا يغنون في مواويلهم ويروون في حكاياتهم فجائع سوق الشباب إلى السفر برلك، وبقيت كلمة السوق إلى العسكرية مرعبة ومحزنة، رغم أنهم كانوا يعودون في إجازاتهم المتباعدة وقد تورّدت وجوههم وتعلّم الأمي منهم، ولا حرب ولا من يحاربون سوى أن هناك عدواً قريباً قالوا لهم إننا نهيئ لهزيمته ورميه في البحر، ثم ما حصل لاحقاً أن أبناء البلد تناثروا في البحار وابتلعت الكثيرين منهم . . .
الحاصل أن سليمان الذي لم يغادر القرية في حياته، ولا يعرف نطق كلمتين باللغة العربية، إذ كان يظن أن كل الناس يتحدثون بلغته الكردية التي لم يسمع غيرها، صار اسمه العسكري سليمان، وغاب شهوراً طويلة أصبح فيها رجلاً مختلفاً، تعلم فكّ الحرف، وصار يتحدث العربية بطلاقة على الأقل نسبة إلى أهل القرية الذين كانوا يستنجدون بإمام الجامع أو المختار حين يأتي شرطي إلى القرية ليفهموا منه ما يريد.
انتهت أعوام خدمته الإلزامية بسرعة وعاد إلى القرية يقف صباحاً مع الرجال بجانب مزابل الدواب المنتشرة في ساحاتها وشوارعها، وكان يتأفف بداية من وجودها ورائحتها، لكنه لم يلبث أن اعتاد عليها، وعاد كما كان قبل أن يتعرف إلى هوسه الجديد، رواية الحكايات عن المدينة الكبيرة وعن أناس ينتمون إلى كل مناطق البلد، وصار حديث المجالس كلها (عسكرية سليمان)، حتى أنك لو جمعت القصص التي رواها سليمان عن عسكريته لأصبحت مجلدات، ولاحتاجت الأحداث إلى كل سنوات عمره لتصبح ممكنة الحدوث، كان يشعل سيكارته بعد أن يلفها بهدوء ويروي مغامراته وبطولاته ودقته في إصابة الهدف، والعدد الكبير من النساء اللاتي كن يرتمين على قدميه، مؤكداً أن لديه الكثير من الأولاد الذين لا يعرفهم هناك.
حين يروي حكاية فيها ضابط أو صف ضابط كان يقول: كان عندي نقيب من المدينة الفلانية، أو كان عندي رقيب من القرية الفلانية، ثم يسرد كيف أصيب العقيد بالرعب حين عرف بتسلله هو ومجموعة معه إلى خلف خطوط العدو من أجل قطف بعض حبات التين التي كانت في الجانب الآخر من خط النار، واستغرب كيف قطعوا حقول الألغام التي يقال إن العدو زرعها في المنطقة العازلة، والأسلاك الشائكة والمكهربة، ومن أجل ماذا؟ من أجل سلة تين وزع ما زاد منها عن حاجته على رفاقه العسكر.
كانت حكايات سليمان المليئة بالخيال عن عسكريته ممتعة وشيقة وطريفة، كانت فاكهة المجالس حيثما وجد سليمان، وكان الرجال يتثاءبون وهم يطلبون منه سرد المزيد من الحكايات عن عالم غريب ومدهش رغم يقينهم بأنها لم تحدث، وأن سليمان يكذب، لكنها كانت كذبات بيضاء يتناقلها القرويون في غيابه أيضاً وهم يضحكون من أعماقهم. بعد أن تزوج سليمان حاولت زوجته مراراً منعه من الاستمرار في رواياته التي لا تنتهي، وكثيراً ما كانت تسكته حين تأتي بإبريق الشاي وتراه مندمجاً في الحكاية، يسردها بإتقان قل نظيره، فتقاطعه وتأخذ الحديث إلى حالة قطعة الأرض التي يهملها سليمان ولا يزرعها بسبب انشغاله بالحكايات، والبقرة الوحيدة التي لا يوصلها صباحاً إلى الراعي لتبقى حبيسة (البايكة) إن لم تقم هي بالمهمة، والجدران الطينية التي توشك على الانهيار في بيتهم بسبب إهماله إعادة تطيينها وصيانتها، فيعود سليمان مرغماً إلى حيث تأخذه المرأة التي لا يعرف من أين جاءته وقطعت سلسلة أفكاره، وحين تغيب ويحاول العودة إلى حيث كان يسأل الناس: وين صرنا؟ وحين يذكّرونه بنقطة وصول الحكاية يذهب إلى حكاية أخرى بسبب تداخل الحكايات عنده.
مع كل ذلك بقيت حكاياته تروى حتى بعد رحيله، كان الحكواتي المفقود، السارد الوحيد المختلف في مجتمع تعود على حكايات الأسلاف وقصص حبهم.
ما زال هنا، ما زال يروي.