موسم الهجرة إلى الشمال
تستحق هجرة السوريين التي استنفر العالم وإعلامه من أجلها، ومتابعة هذه الموجات البشرية و(الجيوش) المسلَّحة بأمل العيش بأمان، ومعظمهم من الشباب والنساء والأطفال ويمكننا إضافة كبار السن أيضاً..! تستحق التأمل والقيام بحسابات بسيطة لحاضر ملايين السوريين ومستقبلهم، الذين توزعوا وتشتتوا في أركان الكرة الأرضية الأربعة. يضاف إليها صور الموت والمآسي والركل والطرد والجوع، وأصبحت حديث الساعة في سورية. ويتابع الشعب السوري قاطبة هذه الأمواج بقلق وخوف، لأن أوربا تعمل على تفريغ سورية من القوة الشابة.. وهذه الجحافل البشرية التي تقتحم الحدود والأسلاك الشائكة والبحار والنوم في الشوارع والحدائق تواجه سياسة الإذلال والضياع.
أرى أن هجرة السوريين لم يحدث مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945 )، ويمكن أن تؤدي إلى تقسيم الاتحاد الأوربي بين من يسعى إلى تأمين المهاجرين واستقبالهم، ومن يطاردهم ويرفض وجودهم في بلاده.. واتخذ الاتحاد الأوربي قرارات حازمة ضد من يرفض استقبال المهاجرين بدفع غرامة مالية، خاصة من (صربيا واليونان وإيطاليا).
تطرقت في مقالات سابقة لأسباب الهجرة ودوافعها ونتائجها الإيجابية والسلبية. وفي هذه المقالة لا بد من تذكير أدباء سورية أن ظاهرة الهجرة تعتبر محفّزاً لكتابة القصص والروايات والمقالات الإخبارية والتحليلية، التي تعدّ جزءاً مكملاً لتاريخ الهجرات القديمة، أو هي حلقة أخرى من سياسة أوربا التي أشعلت نيران الإرهاب وقدمت الدعم للمسلحين، وهي الآن تشجع الهجرة إليها باعتبارها حُقْنة دوائية في عروق أوربا لإزالة تجاعيد الشيخوخة وتجديد دماء الأوربيين.
إن توزع السوريين في الشتات وفي بيئات متعددة النماذج وأنماط الحياة المتشابهة إلى حدّ ما، سيؤدي حتماً إلى العيش في ظل عادات وقوانين جديدة وقبول مبدأ المحاسبة لمن يخالف قوانينهم.
وما يجري الآن في هذه المعارك على حدود الدول، يذكرنا برواية الأديب الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، الذي تنقَّل في بلدان عدة وتابع دراسته في بريطانيا وبقي هناك مدة سبع سنوات. وهذا التنقل والاختلاط مع شعوب أخرى أكسبه خبرة بأحوال العالم .. وقد وظف هذه الخبرات في رواياته وأعماله وكتاباته، خاصة في هذه الرواية التي اعتبرت أفضل رواية عربية في القرن العشرين.
يقول الراوي مصطفى سعيد، الطالب وهو الكاتب نفسه: عدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة سبعة أعوام، تعلمت الكثير وغاب عني الكثير.. المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل… أحسستُ كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي..!
الآن .. المهاجرون الذين وصلوا إلى بلاد المهجر غمر الفرح قلوبهم، وفاضت الأفئدة بسواقي الأمان والاطمئنان كما تكشف خطاباتهم ورسائلهم على صفحات الفيس بوك.. واضطر مم بقي من أهلهم في سورية إلى شراء الموبايلات المتطورة للاتصال مجاناً وسرد الأحاديث الطويلة، والاعتراف بأن الغربة تضاعف الحنين والشوق ألف مرة.. وأن الوطن مهما كانت القلوب قاسية يظل صورة مشرقة في الذاكرة.
ولن تغادر ذاكرات ملايين الناس في سورية والعالم.. صورتان مترابطتان في المضمون، وظهور المناهضين للهجرة والمهاجرين. الأولى صورة الطفل الميت المسجَّى على رمال الشاطئ، وصورة المصوّرة الهنغارية (بترا لا زسلو) لاعبة الكاراتيه التي تتدرَّب بركل المهاجرين.. والتي تمارس تصرّفاً عنصرياً.. والدعوة إلى أن هذه الهجرة تشكل خطراً لا على هنغاريا وحدها بل على أوربا كلها..!