فضل الله… في مواجهة الحقيقة
لا شيء في هذه المدونة، لا في العموميات ولا في التفاصيل، مجَسَّدٌ كاملاً على أرض الواقع. فكل ما جاء فيها، هو من بنات أفكار الكاتب، واختراع مخيلته. ولا يعود بأسبابه إلى الحقيقة، إلا بقدر ما يعود الاختراع بأمومته إلى الحاجة، والمتخيل بأبوّته إلى الموجود.
***
جميع أهل القرية وأهالي القرى المجاورة، باتوا اليوم يعرفون (فضل الله) ويعرفون قصته. أقول اليوم، أي بعد اختفائه. أمّا قبل ذلك، فالأقربون وذوو الصلة فقط، هم من كانوا على معرفة به.
في المرحلة الابتدائية، ترك (فضل الله) الدراسة، لم يكن يلاحظ عليه، أنه يختلف عن مجايليه وأقرانه بشيء يذكر، اللهم بغير الاسم والابتسامة:
اسمه الذي يعود سبب حملانه له، إلى جارتهم (أم ذوقان) التي أبلغتهم وصية شيخ جليل زارها في الحلم، قبل حصول الولادة بخمسة أيام، معرّفاً نفسه بـ(المير السيّد)، طالباً إليها، إبلاغ والدي المولود القادم إلى أسرتهما، بتسميته (فضل الله)..
وابتسامته الدائمة، التي وصفها أحد الأدباء، بالابتسامة الجبرانية أو ابتسامة المعرفة.
***
عقب زيارته ضريح أحد الأولياء، وقضائه فيه يوماً كاملاً، وتوديعه الدراسة إثر ذلك، ودّع (فضل) كثيراً من العادات الاجتماعية العامة المتواضع عليها. منها تبادل الزيارات والمشاركة في المناسبات وسواها من الواجبات، وصار له جَوّه، وعاداته الخاصة، التي تختلف حدّ التناقض، مع نظائرها لدى الآخرين.
***
دخل (فضل) ذلك المقام إنساناً، وخرج منه إنساناً آخر كلياً..
كأن هناك داخل كيانه في منطقة ما ميزاناً أو مقياساً، انقلب مؤشره أو معياره أو تدرُّجُه، رأساً على عقب.. وكأني أسمع هنا في الأفق، هاتفاً يهتف بي:
ولمَ لا تقول إن ذلك الميزان أو المقياس، قد انعدل مؤشره أو معياره أو تدرُّجُه، ووقف على رجليه، بعد أن كان يقف على رأسه؟
ما يمكننا تأكيده بلا تردد بخصوص فضل هو: أنَّه صار، إذا أعلمته بموت أحدهم – على سبيل المثال -يفرح له.. وإذا أخبرته بزواج آخر، يترحّم عليه!
***
في إحدى المناسبات أراد شابٌ أن يتظارف مظهراً براعته وحسن أسلوبه في تسلية الحضور، فسأل فضلاً ممازحاً، عما إن كان يحب النساء أم لا. ولما ردَّ (فضل) عليه بالإيجاب، مستغرباً سؤاله، عاجله الشاب بسؤاله: ولِمَ لا تتزوج إذاً؟
برّر فضل عدم إقدامه على الاقتران بصبية، بأنه ليس من الحصافة ولا الشطارة ولا العقل في شيء، أن يبادل الإنسان حريته بأسبوع أو شهر عسل، بـ(كَدْن) نفسه بعد ذلك طوال عمره، إلى جانب امرأة، إن لم تشدّه إلى جهتها فلن تترك له مجالاً للاختيار. ولاسيما أنَّ باستطاعته، بكبسة زر في خُياله، التمتع بتعرية أيّة صبية تروقه ومضاجعتها بالطريقة التي يريد.
وهنا أراد (كايد) وهو واحد من وجهاء القرية، معروف بحدَّة طبعه وشدَّة بطشه وعدم تهاونه مع من تسوّل له نفسه وقلّة بخته، المساس بالآداب العامة، أو الخروج على الأخلاق، سواء في حضوره أو في غيابه.. أراد أن يتبسط مع (فضل) آخذاً إيّاه على قدر عقله، ومتحفاً الحضور بإِطلاعهم على الجانب الأقل تجهماً من شخصه، فسأل فضلاً ملاطفاً ومتقرباً (وهو الذي لا يحسد العقرب على مقاربته) قائلاً:
(ما حرام عليك يا فضل تعرّي صبايا ضيعتك، في فضاء خيالك متى شئت وكما تريد؟ ما بتخاف من الله؟)
فأجابه (فضل) فوراً وبالأسلوب عينه من التلاطف والتقرب:
(يعني حضرتك يا سيد كايد… حلال عليك تعرّي مرت ابنك من ثيابها وتضاجعها على أرض الواقع وفوق فراش ابنك، كلما شئت وكما تريد؟ ما بتخاف من وجه الله؟!).
***
لئن تواطأت الأصوات، على تجريم (فضل)، بعيد انتهائه من رصّ آخر فصّ من ملح ردِّه، على جرح سؤال (كايد)؛ فقد تباينت في مستوى عقوبته:
منها، ما ارتأى وجوب قصّ لسان فضل، كي يتأدب ويُؤَدَّب فيه كل من تهيئ له قلة شرفه يوماً، الحطّ من كرامة أسياده!.. منها ما أشار إلى تكسير رأس المجرم، الذي تجرأ على الاحتفاظ بتخرصات كهذه..
منها ما قال بالاكتفاء بطرده مع عائلته من القرية.. ومنها.. ومنها…
ولم يضع حدّاً للاجتهادات، سوى الوجيه نفسه، حين علا صوته آمراً بعدم الاقتراب من (فضل)، أو المساس بشعرة منه. مبرراً رأيه بأن (ليس على المريض حرج) وأنَّ كل ما تلفَّظ به لسانه، هو نتيجة الحمى التي تستعر في جوفه، وتصور له أشكالاً وألواناً!.
***
لم تقتصر المرحلة الأخيرة من حياة فضل (قبل اختفائه) على ما جرى بينه وبين الوجيه (كايد).
فقد كثرت مكاشفاته ذوات الحقائق الفاضحة، عمّا يخصّ ماضي حيوات غير قليلة من أهل الضيعة والمنطقة والبلد بأكمله وحاضرها ومستقبلها، وبضمنهم أقرباؤه ووالداه، اللذان صارا يتحرّجان منه ويتأذيان بسببه.الأمر الذي أسعد بعض المنتفعين، وأزعج بعض المتضررين، وكوّن له جمهوراً من المتابعين، فمنهم من كان يزوره محملاً بالهدايا..
ومنهم من كان يستدعيه ويستجوبه، ويعود محملاً بالتهديد والوعيد..
ومنهم من يعمل كذا.. ومنهم من يعمل كيت..
آخر استدعاء لفضل، كان من مسؤول كبير في العاصمة.. قيل إنه احتفى به كثيراً وأكرمه، وتحادث وإيّاه أكثر من ساعة. وحين مغادرته، أرسل معه من يرافقه، في طريق عودته الميمونة من ضيافته، تلك العودة التي لم يعد منها أبداً.
***
تباينت الأخبار حول اختفاء فضل أثناء عودته من زيارة ذلك المسؤول..
منها أن سيارته تدهورت إثر حادث سير..
منها أنه جرى اقتياده من قبل أحد مرافقيه إلى مكان مجهول..
منها أن سيارته كانت ملغومة، وتفجرت على الطريق..
منها أن حاجزاً طياراً من إرهابيي داعش، أوقف موكب (فضل) في منتصف الطريق، فأسره مع سائقه وسيارتهما..
وهكذا أسدل الستار على اختفاء فضل، الذي لم يُعرف مكانٌ له ولم يَتَعَرّف أحد على جثته، وحتى لم يطالب به، حتى اللحظة!.