السيارة الأولى
اللاندروفر… كان القرويون يرددون الاسم دون أن يعرفوا أنها ماركة سيارات تنتجها بريطانيا العظمى، وتعتبر إحدى مفاخر الإمبراطورية التي كانت تقاوم غروب شمسها، بل كانوا يظنونه أحد أسماء السيارة ككل المرادفات في اللغة. ويقترن عندهم بالسيارة الوحيدة التي تدخل القرية النائية، وتنقل الركاب المحملين باللبن والجبن والقريشة والصوف و(سحاحير) الخضار وغيرها مما يزيد عن حاجات أسرهم، أو مما يقتطعونه منها، ليستطيعوا شراء ما يحتاجونه من المدينة أو ما يشبه المدينة…
نحن الأطفال، الذين كنا نصنع ألعابنا من طين الأرض، لم يكن في مخيلتنا من نموذج نصنعه للسيارة سوى سيارة عبودة، التي يتصاعد منها دخان قطار وهي تتسلق الطريق المتعرج الصاعد إلى القرية، وفيها العائدون من المدينة بما يحملونه لأولادهم من ملابس جديدة ولوازم البيت وبعض الحلويات الشعبية إن أمكن.
كان مالكها وسائقها قد أدخل تعديلات على الهيكل لتلائم طبيعة عملها، فركّب درابزين معدني على سطح السيارة لوضع ما يأخذه الفلاحون معهم عليها، ثم يثبتها بحبال، فتبدو السيارة أشبه بجمل أحياناً من كثرة ما تحمله على ظهرها… وكلما شكا راكب من سوء حالة السيارة كان عبودة يقول: (هيك طريق بدو هيك سيارة).
وحقيقة، فإن طرقات القرية كانت تُربك حتى الدواب في سلوكها، مغبرة صيفاً موحلة شتاء، مليئة بالحفر والحجارة… وإصلاح الطريق ليس من مهمات عبودة ولا من صلاحياته، ولا تتحمله موازنته المنهكة التي لا تكفي زوجتيه.. لكنه ظل كلما سأله سائل عن تدهور الحالة الفنية للسيارة قال قولته نفسها…حتى بدأت تتفاقم أمراض السيارة، وصارت رائحة البنزين تفوح منها وفيها، وتحيل الركاب إلى أشبه بسكرانين، ويصل الأمر بالكثيرين منهم إلى التقيؤ، لكن عبودة لم يعترف مرة بأن سيارته أصبحت قديمة ووجب إرسالها إلى معمل حماه، وشراء أخرى جديدة، بل كان يتهم طرقات القرية والفلاحين الذين لا يحافظون على هذه النعمة بإساءة استعمالها.
وحين انقطع قشاط المروحة مرة، وارتفعت حرارة المحرك وصار الدخان يتصاعد من أطرافه بدأ عبودة سلسلة شتائم للميكانيكي الذي لم ينبهه لتبديلها، وإلى التجار الجشعين الذين يستوردون أسوأ بضاعة في العالم، ولم يقل، ولو عرَضاً، بأنه يتحمل بعض المسؤولية بسبب عدم تفقده للقشاط. ولم يحاول إيجاد حل للمشكلة يوصله إلى المدينة ليبدل القشاط، لكن صادف مرور أحد أبناء القرية الذي اقترح عليه استعمال عقاله بدل القشاط ريثما يصل إلى المدينة، ضحك عليه عبودة بداية واتهمه بالجهل، لكنه، وساعده بعض الركاب قام بتركيب العقال بدل القشاط ونجحت التجربة، إذ كرجت السيارة، وأوصله العقال إلى المدينة.
ومرة سقط (الاشطمان) أرضاً بعد أن ظل يلولح في الهواء شهوراً طويلة، وكعادته اتهم عبودة أولاد القرية مؤكداً بأنهم يحولون السيارة ليلاً إلى لعبة لهم، ويستخدمون بوري الاشطمان الخارج من مؤخرتها لربط حبل يحاولون جرها به وهي متوقفة، ولم يقل بأنه، إهمالاً أو بخلاً، لم يقم بإصلاحه حتى يستقيم. وفي المرة قبل الأخيرة فوجئ الركاب بصوت قرقعة أسفل السيارة ثم توقفت، كان الترسمسيون قد (فلت) وصار على الأرض بعد أن تكسرت براغيه وعزقاته، وكان منذ أشهر يرقص أثناء سير السيارة والناس ينبهونه وهو يضحك عليهم، فترك الركاب السيارة وعبودة يبربر بالشتائم على شرطي المرور الوحيد في البلدة الذي (نتره) مخالفة وقوف ممنوع في سوق البلدة أمس!! متهماً إياه بأنه هو السبب في عدم ذهابه إلى الميكانيكي آرتين لإصلاح العطل، وأكملوها مشياً على الأقدام ريثما يأتي تركتور القرية ليجر السيارة إلى البلدة.
تكررت مصائب السيارة وتبريرات عبودة وتحميله المسؤولية للآخرين، حتى جاءت الكارثة الكبرى، إذ فرط دوزان السيارة وهي تهبط منحدراً قاسياً وهوت إلى أسفل الوادي بين الصخور، وسقط معظم ركابها قتلى وجرحى، لكن عبودة الذي نجا من الحادث بقي يردد والدم ينزف من أنحاء جسمه إن ابن ال….. الدوزنجي لا يفهم في مهنته شيئاً، علماً أنه لم يجر كشفاً عند الرجل عليها منذ أعوام، ولم يأبه لتنبيهات الناس بأن سيارته أصبحت مهترئة ودوزانها على وشك الانتهاء.
هكذا لم تنته قصة عبودة الذي ما زال يصر على أن السيارة لاندروفر موديل 1962 جيدة ولا غبار عليها، لكن الناس سيئون…